ربيع النفس: زمن المعموديّة وزمن التوبة
أضواء من الأب ليف جيلله
د. جورج معلولي
مجلة النور العدد الثالث – 2023
يسوع وماء الحياة
تصوّر رسوم من الفنّ المسيحيّ القديم مشهد موسى وهو يضرب الصخرة فيتفجر منها الماء. يتكرّر موضوع الماء باستمرار في العهد القديم، منذ عبور الشعب البحر الأحمر إلى نداء أشعياء: «أيّها العطاش جميعًا هلمّوا إلى المياه» (أشعياء 55: 1). ثمّ نجد هذه الصور على لسان الربّ يسوع: «إن كان أحدٌ لا يولد من الماء والروح لا يقدر على أن يدخل ملكوت اللَّه». (يوحنّا 3: 5) و«إن عطش أحدٌ فليقبل إليّ ويشرب» (يوحنّا 7: 37). يصير الماء علامة الخلاص. يبدأ المخلّص بشارته بقبوله معموديّة يوحنّا ويختمها بإرسال تلاميذه: «إذهبوا وبشّروا جميع الأمم معمّدين إيّاهم...» (متّى 28: 19). ويعلّم القدّيس إغناطيوس الأنطاكيّ في إحدى رسائله أنّ احتكاك جسد المسيح بماء الأردنّ هو مبدأ فعل الماء التقديسيّ في سرّ العماد.
تعطي الكنيسة الأرثوذكسيّة أهمّيّة خاصّة لعيد الظهور الإلهيّ وتسمّيه «عيد الأردنّ»، وتبارك خلاله المياه وتعطيها للمؤمنين ليشربوا. تربط الكنيسة الأرثوذكسيّة سرّ الماء بسرّ النور والاستنارة ويظهر كلّ تقليدها الصوفيّ لاهوت استنارة. ويرتبط مجد حضور اللَّه بالنور في العهد القديم والتجلّي والقيامة والتقليد الهدوئيّ وخبرات الكثير من القدّيسين. هذا واقع روحيّ يراه المؤمنون ويلمسونه «على قدر ما استطاعوا». المسيح يسوع الذي يعمّد والذي هو ماء الحياة هو فاعل استنارتنا ونقطة انطلاق حياتنا الروحيّة.
نعمة المعموديّة:
يكتب القدّيس كيرللس الأورشليميّ: «الماء في بدء العالم والأردنّ بدء الأناجيل». تمنح نعمة المعموديّة للإنسان الحياة في المسيح. وهي لا تتوقّف عن التدفّق في الإنسان طيلة حياته. إن خسرها بالخطيئة يعود ويلتمسها بالتوبة. ليست المعموديّة معموديّة ماء بل يتمّمها الروح القدس. وإن شهد الإنسان للربّ بتقديم حياته فهو يصطبغ بالدم. يتكلّم الإنجيل على «معموديّة النار» (لوقا 3: 16- 17) التي يتمّمها المسيح حسب قول يوحنّا المعمدان. رأى فيها بعض آباء الكنيسة إشارة إلى معموديّة الروح القدس والبعض الآخر إلى تنقية النفوس والغلبة على الخطيئة في اليوم الأخير.
تحتوي خدمة المعموديّة في الكنيسة الأرثوذكسيّة على ثلاثة عناصر: التحرّر من سلطان الشرّير بفعل المسيح الغافر والشافي، ولادة الإنسان الجديد في المسيح آدم الجديد، والانضمام إلى المسيح و جسده. في كلّ من هذه العناصر العمل النسكيّ وعمل النعمة متآزران: الفعل النسكيّ في رفض الأعمال الشرّيرة، وقبول المسيح في الجهد الشخصيّ؛ وعمل النعمة في غرس الإنسان في جسد المسيح. أسرار أخرى يمكن اعتبارها امتدادات لروحانيّة سرّ المعموديّة كسرّ التوبة، ومسحة المرضى، والزواج الثاني، والنذر الرهبانيّ الأوّل. كما يمكن لكلّ مسيحيّ طوال حياته أن يجدّد نعمة المعموديّة وتأجيجها بموقفه الداخليّ والصلاة.
المسيح الذي يغفر ويشفي:
بدأ ربّنا حياته التعليميّة بقوله: «توبوا فقد اقترب ملكوت السموات» (مرقس 1: 15). تتجاوب هذه التوبة مع غفران الخطايا الذي يمنحه الربّ يسوع الآتي ليطلب الضالّ (متّى 18: 12). المسيح الذي يغفر هو نفسه المسيح الذي يعمّد. التوبة والمعموديّة والغفران سلسلة واحدة كما يظهر في كلمات بطرس القائل لمن نخست قلوبهم: «توبوا وليعتمد كلّ واحدٍ منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا، فتقبلوا عطيّة الروح القدس» (أعمال 2: 38).
يجب قبل كلّ شيء أن يتحرّر الإنسان من سلطة الشرّير. طرد يسوع الشياطين خلال مسيرته الأرضيّة. وفي طقس المعموديّة تظهر قوّة المسيح المحرّرة في رفض الشيطان عند الموعوظ وصلوات الاستقسامات التي يتلوها الكاهن. ويبدو أنّ الاستقسامات في كلّ أشكالها (الصلوات، وضع الأيدي والمسح بالزيت) كانت تتكرّر أيّامًا عديدة للموعوظين قبل يوم العماد في الكنيسة القديمة ولا شيء يمنع من أن تجدّد في ظروف أخرى من الحياة. يكتب القدّيس كيرللس الأورشليميّ: «إقبلوا الاستقسامات بشوق... الاستقسامات الإلهيّة المستلّة من الكتاب المقدّس... تنقّي النفس». قوى الظلام عامل لا يجدر الإغفال عنه في حربنا الروحيّة. إنّ تجربة ربّنا في الصحراء متّصلة بمعموديّتنا أيضا بشكل وثيق. فلنفكّ مفهومنا للشرّ عن تصوّراتنا الكاريكاتوريّة الطفوليّة حتّى نميز خصائصه كما تظهر في الكتاب المقدّس. ليس أمير هذا العالم الشرّير من دون إغراء أو بعض أناقة: إنّه خطير بدعوته إلى الخطيئة، وإغراء الكبرياء واليأس الذي يمكن أن يدخله في نسيج الحضارة البشريّة دخولًا طفيليًّا إلى مسرح العالم...
«هلمّ نتحاجج، يقول الربّ. إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيضّ كالثلج. إن كانت حمراء كالدوديّ تصير كالصوف» (أشعياء 1: 18 ): يجيب اللَّه الذين نخست قلوبهم بالتوبة الداخليّة. أشكال أخرى ظاهرة للتوبة نجدها أيضا في الكنيسة الأرثوذكسيّة، كالتوبة أمام الجماعة (لخطايا الجحود والقتل والزنى في الكنيسة القديمة) والاعتراف الشخصيّ أمام الكاهن. يجب ألّا يضعف هذا مكانة وصيّة يعقوب الرسول: «اعترفوا بعضكم لبعضٍ بالزلّات، وصلّوا بعضكم لأجل بعضٍ، لكي تشفوا» (يعقوب 5: 16). ولعلّ التعبير الأكثر كثافة للتوبة نجده في قانون أندراوس الكريتيّ وسيرة القدّيسة مريم المصريّة خلال الصوم الكبير. فليعطنا الروح أن تكون التوبة انسكاب قلب محبّ على قدمَي المسيح!
يرتبط أيضا بسرّ المعموديّة سرّ عطيّة الدموع، وهو حزن مقدّس يغسل أفكارنا بالدموع (كما يقول ذياذوخس أسقف فوتيكي) ويطهّرنا وينيرنا. ويرى القدّيس يوحنّا الدمشقيّ في الدموع شكلًا من أشكال المعموديّة. ويسمّيها القدّيس سمعان اللاهوتيّ الجديد معموديّة الروح القدس: فبعد المعموديّة لا يمحو الخطايا إلّا الدموع. ولا يتوانى يوحنّا السلّميّ في القول: «الدموع التي ذرفناها بعد معموديّتنا هي أفعل من المعموديّة ذاتها... لأنّها تغسل الخطايا المرتكبة بعد المعموديّة... لو لم يمنح اللَّه برحمته هذه المعموديّة الثانية فالقليل يخلصون». أمّا القدّيس نيسيتاس ستيتاتوس (تلميذ سمعان اللاهوتيّ الجديد) فيقول إنّ الدموع تعيد إلى الإنسان العفّة التي خسرها. ما يزال لدينا الكثير لنتعلّمه من دموع المرأة المنسكبة على قدمَي يسوع ودموع مريم المجدليّة.
المسيح الذي يعمّد. المسيح الذي يشفي. المسيح الذي يغفر. «وكان يسوع يطوف كلّ الجليل يعلّم في مجامعهم، ويكرز ببشارة الملكوت، ويشفي كلّ مرضٍ وكلّ ضعفٍ في الشعب.» (متّى 4: 24). وأوصى تلاميذه: «واشفوا المرضى ...، وقولوا لهم: قد اقترب منكم ملكوت اللَّه» (لوقا 10: 9). تتبع الكنيسة الأرثوذكسيّة ما يقوله الرسول يعقوب: «أمريضٌ أحدٌ بينكم؟ فليدع شيوخ الكنيسة فيصلّوا عليه ويدهنوه بزيتٍ باسم الربّ، وصلاة الإيمان تشفي المريض، والربّ يقيمه، وإن كان قد فعل خطيّةً تغفر له» (يعقوب 5: 14). ويقول الكاهن في مسحة المرضى: ليست يدي أنا الخاطئ بل يد اللَّه التي أضعها على رأسك. طبعا يمكن لسرّ مسحة المرضى أن يمارس أيضا خارج المرض. غفران الخطايا والشفاء الجسديّ عنصران في هذا السرّ.
المسيح الذي يعيد خلقنا:
يعيد المسيح خلقنا في سرّ المعموديّة: «وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب اللَّه في البرّ وقداسة الحقّ» (أفسس 4: 24). يشير مسح الموعوظين بالزيت (وهو مختلف عن مسحة الميرون) إلى هذا التجدّد، فهو ينقّي آثار الخطيئة ويحرقها بحسب تعبير كيرللس الأورشليميّ. هذه مسحة لعدم الفساد، لتكون اليدان على مثال «اليدين التي صنعتاني وجبلتاني» وتمشي القدمان «على طريق الوصايا». هذه بداءة الجهاد الحسن. فبعد المعموديّة سيتكرّر التمزّق بين الإنسان المستسلم للتجربة و المسيح النموذج. يقابل القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم بين مسح الموعوظين بالزيت ودهن مفاصل الرياضيّين المتسابقين. «شهوة الجسد، وشهوة العيون، وتعظّم المعيشة» (1 يوحنّا 2: 16) في رسالة يوحنّا تلخّص كلّ الأهواء التي سيواجهها المؤمنون في نفوسهم. وراء كلّ خطيئة هوى أو جنون يظلم القلب أو الذهن كيف نحفظ جدّة الإنسان الجديد في صحوه وسكنى الكلمة إليه؟ بحفظ القلب (العزيز على هزيخيوس السينائيّ) واقتناء الفضائل (التي توردها صلاة التوبة لأفرام السريانيّ) والصوم. غير أنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة تذكّر بتحذير الربّ في أشعياء: «هل تسمّي هذا صومًا ويومًا مقبولًا للربّ؟ أليس هذا صومًا أختاره: حلّ قيود الشرّ. فكّ عقد النّير، وإطلاق المسحوقين أحرارًا، وقطع كلّ نيرٍ. أليس أن تكسر للجائع خبزك، وأن تدخل المساكين التائهين إلى بـيـتـك؟ إذا رأيـت عـريـانًا أن تكسوه، وألّا تتغاضى عن لحمك» (أشعياء 58: 5- 7). لا تفصل الكنيسة بين الصوم والعطاء. في الراعي لهرماس: «ضع جانبًا الطـعـام الـذي تـأكـلـه كـلّ يـوم واعـطه للأرملة واليتيم والفقير...». ويشدّد القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم: «فلتكن إراحة الفقراء مفضّلة على تزيين الهياكل» وفي موضع آخر: «إنّ سيّد بولس يمكنه أن يسكن عندك إن أردت «فهيكل الفقراء أعظم من الهيكل الحجريّ ويمكن لعيوننا أن تراه في كلّ حين».
تخبو كلّ عناصر الجهاد الحسن إن فقدت ارتباطها بشخص الربّ يسوع. كما أوضح بولس الرسول، لقد حلّ شخص حيّ – شخص المسيح - محلّ الشريعة. الناموس يبقى ويزول في آن في المسيح، كما النهر يبقى ويزول عندما يصبّ في البحر. سرّ كلّ غلبة روحيّة يكمن في التحديق المستمرّ بالربّ يسوع وليس بالتجارب والمعوقات. على قدر ما كان نظر بطرس مثبتًا على يسوع استطاع أن يمشي على المياه. هذا التحديق المحبّ والمتواصل بشخص يسوع هو الطريق النسكيّ الأقصر والأكثر أمانًا.
ليس التمثّل بالمسيح غريبًا عن الكنيسة الشرقيّة، لكنّه تمثّل كيانيّ ولا يختزل بالقشور. «كلّ عمل وكلّ قول لربّنا هو قاعدة» يقول القدّيس باسيليوس. يمكن لمراحل حياة يسوع أن تصير أيضًا مراحل حياتنا.
الانضمام إلى جسد المسيح:
ليست الحياة المسيحيّة متمحورة حول المسيح فقط بل هي مسحنة لكامل كيان الإنسان وحياته. الذين اعتمدوا بالمسيح نحو موته وقيامته (رومية 6: 3-4) قد لبسوا المسيح حقًّا. كلّ ما اتّخذه المسيح يخلص (القدّيس غريغوريوس النازينزيّ) أي كامل الطبيعة البشريّة. وكما اتّخذ جسدًا في البتول النقيّة فهو أيضًا يسكن في كلّ واحد فينا (القدّيس ميثوديوس الأولمبيّ). يكتب القدّيس سمعان اللاهوتيّ الجديد في أناشيد الحبّ الإلهيّ: «نصبح أعضاء المسيح ويصبح المسيح أعضاءنا... أحرّك يدي وإذ يدي كلّها هي المسيح لأنّ ألوهة اللَّه قد اتّحدت بي ...». وفي كلامه على أبيه الروحيّ سمعان الستوديتيّ يقول: «لم يكن يخجل من أعضاء أيّ إنسان... لأنّه كان يمتلك المسيح بكلّيّته والمسيح كان يمتلكه بكلّيّته. كان يرى أعضاءه وأعضاء كلّ إنسان كأعضاء المسيح». يلقي هذا ضوءًا جديدًا على بعض تعابير بولس الرسول. لم يقل بولس إنّ المسيح يعطي الحياة بل قال: «لأنّ لي الحياة هي المسيح» (فيليبّي 1: 21) و«متى أظهر المسيح حياتنا...» (كولوسي 3: 4). لم يقل إنّ المسيح يعطينا الحكمة والبرّ والقدّاسة بل إنّ المسيح صار لنا حكمة وقداسة وبرًّا وفداء (1 كورنثوس 1: 30).
ربيع النفس:
العلاقة بين الربّ والنفس علاقة قربى حميمة. في زمن المعموديّة أو التوبة، لسنا بعد في ملء صيف الحياة الروحيّة بل في الانتقال من شتاء الخطيئة إلى ربيع الوجود المفتدى. هذا زمن الفجر. البراعم تتفتّح لكنّ الثمار لم تنضج بعد. هذا زمن الفتوّة الروحيّة، مع قلقها وحماسها وتقلّباتها، مع تعثّراتها أيضا ولكن دومًا مع هذا الإحساس بالاكتشافات الجديدة وتنشّق نسيم الرجاء المنعش. تلتهب التقوى بمشاعر جديدة و تصبح أقوال نشيد الأناشيد واقعًا للنفس: «أجذبني وراءك فنجري ...كالسوسنة بين الشوك كذلك حبيبتي بين البنات. كالتفّاح بين شجر الوعر كذلك حبيبي بين البنين...صوت حبيبي. هوذا آت طافرًا على الجبال، قافزًا على التلال...لأنّ الشتاء قد مضى والمطر مرّ وزال. الزهور ظهرت على الأرض» (نشيد الأناشيد 1 و 2).
زمن المعموديّة. زمن التوبة. زمن التحوّل. زمن الشفاء. زمن الغفران. أوقات مباركة للقاء أوّل، أو لقاء جديد مع الربّ يسوع. التقى الربّ تلاميذه بعد معموديّته مباشرة: «من تطلبون ؟... ربّي أين تمكث ؟... تعالوا وانظروا... ومكثا عنده ذلك اليوم» (يوحنّا 1: 38-39). وكما يذكّرنا القدّيس باسيليوس: لست أنت من اخترت المسيح بفضيلتك بل المسيح أخذك بمجيئه. عبّرت الكنيسة القديمة عن هذه الجدّة ببعض الرموز: الثوب الأبيض للمعتمدين الجدد، الحليب والعسل الممنوح لهم، والشمعة المضاءة التي كانوا يحملونها. في ربيع النفس هذا يظهر الراعي الصالح الجزيل حسنه الذي يحمل الخراف على كتفيه. وتظهر صورة السمكة صورة عن المؤمن الذي هو من فصيلة السمكة الإلهيّة، والذي وهب له أن تجري فيه ينابيع المياه الحيّة كما تؤكّد إحدى الكتابات الجداريّة القديمة.