العدد الثاني - سنة 2023

01 – الافتتاحيّة: ماذا يعني أن أكون أرثوذكسيًّا؟ / الأب بولس (وهبه) - العدد 2 سنة 2023

مجلة النور العدد الثاني – 2023

 

قد يستغرب البعض هذا السؤال، بخاصّة على صفحات مجلّة أرثوذكسيّة وبقلم كاهن أرثوذكسيّ. فالسؤال يبدو بديهيًّا في نظر من يُصَنّف نفسه أرثوذكسيًّا، لا بل قد يبدو ساذجًا في نظر البعض لوضوح جوابه في أذهانهم. لذلك، سأعرض الموضوع بشكل إيجابيّ، أي لتوضيح ما هي العناصر التي يجب أن تتآلف معًا لكي يأتي الجواب طبعًا حسب مفهومي أنا الذي أزعم أنّه ينسجم ويتناغم مع ما يقوله الكتاب المقدَّس والتقليد الشريف الذي يضمّ الليتورجيا وتعليم المجامع والآباء الكبار.

كلمة أرثوذكسيّة مشتقّة من كلمتين في اللغة اليونانيّة، تعنيان «الرأي (أو الاعتقاد) الصائب (أو الصحيح)»، وتاليًا فكلمة أرثوذكسيّة تدلّ على تبنّي ما حدّدته الكنيسة من عقائد وتحديدات إيمانيّة وجوهر العبادات ومحتواها، إضافة إلى الفنّ الكنسيّ، وعلى رأسه الأيقونة، والروحانيّة التي طبعتها والتي وصفها اللاهوتيّ الأرثوذكسيّ المعاصر فلاديمير لوسكي بـ«الصوفيّة» في كتابه الصادر عن منشورات النور «اللاهوت الصوفيّ للكنيسة الأرثوذكسيّة» (وصوفيّ لا تعني الرهبانيّ حصرًا).

فلتناول كلًّا منها بالتتابع. «ما حدّدته الكنيسة»، وهنا لا نعني بالكنيسة الإكليريكيّين حصرًا، بل خبرة الشعب ووجدانه الذي هو «حافظ الإيمان» كما قال القدّيس باسيليوس الكبير، من «عقائد» جرى تبنّيها في مجامع مسكونيّة أو من قِبَل مجامع تبنّت تعاليمها  كلّ الكنائس. هذا ما نسمّيه «اللاهوت» أو كما يسمّيه البعض «علم اللَّه»، أو ما يختصّ باللَّه. إضافةً إلى اللاهوت، كما أنّ هناك ما نسمّيه «الآراء اللاهوتيَّة» التي نادى بها بعض الآباء واللاهوتيّين، والتي تمثِّل تَوَجّههم الفكريّ والروحيّ التي – وإن وجدت لها رواجًا في بعض الأحيان والعصور – لا تُلزم المؤمن الأرثوذكسيّ بتبنّيها أو القول بها أو رفعها إلى مستوى التحديدات العقائديّة التي تبنّتها الكنيسة رسميًّا، ولن أستفيض بإعطاء أمثلة لئلّا يظهر ذلك وكأنّني أستهدف هذا الحَيِّز أو ذاك، بل تكفي الإضاءة على ما هو اللاهوت الأرثوذكسيّ لكي يستبين ما ليس من صلبه عضويًّا. الخطر هنا، كما ألمحت إليه للتوّ، بأن تصبح بعض الآراء اللاهوتيّة وبعض الممارسات بديلًا حاجِبًا اللاهوت النقيّ، فينجرّ إليها البعض بوصفها هي اللاهوت الصحيح، فَيُهَرطِقون غيرهم لعدم تبنّي ما يقولون به، ويُسَلِّطون تهمة مخالفة الأرثوذكسيّة والخروج عنها ويُنَصِّبون أنفسهم رقباء حارسين للإيمان «القويم»، في ما ينادون به ربّما مدفوعٌ بظروف اجتماعيّة واقتصاديّة وتاريخيّة وشخصيّة. والأسوأ من هذا أنّهم يصولون ويجولون من دون حسيب أو رقيب في فضاء الإدانة والانغلاق والحقد والإقصاء.

وهذا يصبّ في «روحانيِّة» ما يمارسون، فتصبح الأرثوذكسيّة بنظرهم محصورة بتبنّي آرائهم وممارساتهم  التي لهم الحقّ باعتناقها، لكن ليس بفرضها وهرطقة من لا يشاركهم إيّاها. فيصبح كلّ أبناء الكنائس الأخرى (أو حتّى أبناء كنيستهم)  في نار جهنّم، فيما الجنة مطوَّبة لهم ولمن شدَّ على مَشَدِّهم. هؤلاء يمتهنون العُبوس بدلًا من الفرح الذي استودعه إيّانا السيّد. وبدلًا من التفتيش عن المُشتركات يُضيئون على المُختلفات، غير مُمَيِّزين بين الخلاف والاختلاف، وغير مُعمِلين التحليل السياقيّ والتاريخيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ والأنثروبولوجيّ لفهم بعض هذه الاختلافات. طبعًا، هذا لا يعني أنّنا كأرثوذكسيّين نقبل أو نوافق على ما جرى تبنّيه وممارسته من قبل بعض الكنائس الأخرى، لكن – بدلًا من الشيطنة والهرطقة والحقد – الأفضل أن أقول: هذا ما أؤمن به بحسب تعليم كنيستي، وهذا ما لا أقبله عند الآخرين ممّا لا يتوافق مع تعليم كنيستي وممارستها وروحانيّتها، من دون نزع صفة المسيحيّة عنهم إن كانوا يؤمنون بالثالوث الأقدس وبالتجسُّد وبالخلاص/ الفداء الذي أتانا من صلب الربّ يسوع وقيامته.

لهذا ليس كلّ اختلاف خلافًا، فالكنيسة عرفت الاختلاف في الممارسات وحتّى في الروحانيّة التي نمت وترعرعت في بيئات مختلفة حَتَّمت هذه الاختلافات. وإن ذهبنا إلى أبعد من ذلك، وطالعنا الأدبيّات التي صدرت عن أرثوذكسيّين في مجالات أدبيّة ونهضويّة وسياسيّة واجتماعيّة وفكريّة لوجدنا كم كانت كنيستنا، وما تزال، تزخر بغنى فكر وتوجّه هؤلاء الذين وجدوا في كنفها الترحاب والحوار والحَضن. فماذا جرى الآن لتميل الدفة عند البعض باتّجاه احتكار النظرة إلى ما يزعمون أنّه الأرثوذكسيّة الحقّ؟

الأرثوذكسيّة محبّة وانفتاح ورحابة أفق، لأنّها الجوهرة التي ما تزال أمينة لما قالته كنيسة العهد الجديد التي تعتبر نفسها امتدادًا لها، وهي التي قاست واضطُهِدَت وعانت وصمدت وشهدت. لكن، إن نزعنا المحبّة وأحللنا محلّها أيّ اعتبار آخر، نصبح مُتَنَكِّرين لهوّيتنا وتراثنا وبخاصّة لتعليم ربّنا المُنسكب في البشارة، كما دوّنها الرسل وشهدوا لها مع تتابع القدّيسين «الذين صَيّروا الأرض سماءً».

Loading...
 

 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search