العدد الثاني - سنة 2023

07 - حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة: من أجل أن تبقى الحركة حدثًا / غسّان الحاجّ عبيد - العدد 2 سنة 2023

مجلة النور العدد الثاني – 2023

 

في الذكرى الخمسين لتأسيس حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة كتب الأب الأرشمندريت إلياس مرقس (رئيس دير القدّيس جاورجيوس – دير الحرف، آنذاك)، في مجلّة النور التي تُصدرها الحركة، ما مضمونه أنّ الحركة، عندما أبصرت النور في أنطاكية، كانت حَدَثًا، ويجب أن تبقى حَدَثًا؛ ومن أجل أن تبقى كذلك دعا إلى إبعاد خطر المأسسة عنها. بطبيعة الحال، لم يكن الأب إلياس يجهل ما للمأسَسَة من إيجابيّات أهمُّها تنظيم العمل (أيِّ عمل) وتوفير فرص النجاح له وتعميم فائدته؛ غير أنّه كان يخشى أن تصبح المأسسة، مع الوقت، مطلوبة لذاتها، إذ في هذا يكمن خطرها. كان يَعلم ويُعلّم أنّ المأسسة في كنيسة المسيح، مطلوبةٌ لذاتها، دُونَها خطرٌ كبيرٌ ألا وهو قتل الروح، وكتابنا المقدّس ينهانا عن ذلك حيث يقول على لسان بولس: «لا تُطفئوا الروح» (1تسالونيكي 19:5).

صحيحٌ أنّ العمل الحركيّ يتمّ عَبرَ أُطُر تتّخذ لها، تبعًا لطبيعة كلّ منها، أوجُهًا مُؤسّسيّة معيّنة (النشر على سبيل المثال)، غير أنّ هذا لا يعني – بل يجب ألّا يعني – أنّ الحركة مؤسّسة. لا، ليست الحركة مؤسّسةً، إنّها تيّار. وَحدَه الشخص الإنسانيّ في الحركة هو (إذا جازتِ الاِستعارة) المؤسّسة. فيكون عمل الحركة الأساس، استنادًا إلى هذه المعادلة، بناءَ الشخص الإنسانيّ على معرفة المسيح، وتاليًا على حبّ المسيح وكنيسته، ويكون ما عدا ذلك تفاصيل أو، بالحريّ، وسائلَ وإِواليات. أجل، ليست حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة مؤسّسةً بل تيّارٌ، وبهذه الصفة ينبغي لها أن تُجدّد في ذاتها، وباستمرار، زَخمَ الانطلاقة الأُولى، زَخمَ التأسيس. بتعبير آخَر، ينبغي لها أن تبقى، في أنطاكية، ما وُجدَت أصلًا لتكونه، أي صوتًا نبويًّا مُدَوِّيًا، ريحًا نبويَّةً عاصفةً «لتقلَع وتَهدم، وتُهلك وتنقُض، وتبنيَ وتَغرس» (إرميا 10:1)؛ وإذا اختنق فيها هذا الصوت فإنّها تفقد الكثير من هويّتها النهضويّة، إذ تتحوّل إلى مجرّد مَدارسَ أحَديّة، وهو ما آلت إليه حالُها في الكثير من أماكن وجودها.

لذلك، أَستطرد هنا لأُنَبّه إلى أنّ العمل الأُسريّ الذي يتمّ في الحركة، ويطال مختلف الفئات العمريّة، مُهمٌّ جدًّا – لا شكّ في هذا – ويجب تعزيزه، لكن مع الحرص على ألّا يَختزل دورَ الحركة ورسالتَها بتحويله إيّاها إلى مجرّد «مدارسَ أحَديّة»، فيحتجب عن الرأي العامّ الكنسيّ وجهها الأصيل الذي هو أنّها تيّار نهضويّ عارم، صوتٌ صارخٌ في أنطاكية أَن «أَعِدُّوا طريق الربّ واجعلوا سُبُلَه قويمة» (متّى 3: 3). لذا، وَجَبَ أنّ كلّ من ينتسب إلى صفوف الحركة يُوَعَّى على أنّ هذه الحركة ليست مجرَّدَ تَجَمُّع شبابيّ ناشط في الكنيسة، لكنّها – كما أسلَفنا – تيّار روحيّ عارم انطلق في الكرسيّ الأنطاكيّ، في ساعة افتقاد علويّ مبارك، ليردّ إليه الروح ويُعيد بعث ما دَفنه فيه الإهمال من تراث لاهوتيّ غنيّ جدًّا، وكنوزٍ روحيّة تُعيد – إذا ما نُفِضَ عنها غبار السنين – إلى كنيسة الرسولين بطرس وبولس بهاءَها وإشعاعها العظيمين، فتكون للجيل الجديد خبز حياة أبديّة، وتكون، في مُحيطها العربيّ، شاهدةً حيّةً للحبّ العيسويّ الذي يضمّ إلى قلب يسوع الناصريّ الجميع. ففي هذا الخطّ قال المطران جورج خضر، في حديث إذاعيّ خاصّ قدّمه في تمّوز 1991، تحت عنوان «حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة»، ما حرفيّته: «... فقد حَسِبْنا أنّ المجموعة البشريّة، الساقطةَ بسببٍ من جهلها، قادرةٌ على أن ترتفع إلى مستوى الكلمة وأن تصير، إذ ذاك، الكنيسة. وكان هذا يقتضي إمعانًا في تتبّع الفكر المسيحيّ الشرقيّ، قديمِه وحديثِه. وغَدَونا ننكبّ على كلّ ذلك ونوزّعه على الجائعين إليه، ونكتب لغة جديدة تَنبع من الجذور ولكن غذاءً للمعاصرين...» (أنطاكية تتجدّد ص 7). وهذه هي النتيجة: فإلى هذه الحركة، التي هي عطيّة الروح القدس، يعود الفضل في كلّ ما شهدناه في «أنطاكية الجديدة» وما زلنا نشهده، منذ أربعينيّات القرن الماضي إلى اليوم، من «إنجازات» نهضويّة غنيّة بدلالاتها، إن على مستوى النشر الذي سدّ في المكتبة الأرثوذكسيّة العربيّة فراغًا كان كبيرًا (مجلّة النور ومنشورات النور)، أو على مستوى بعث الحياة الروحيّة والرهبانيّة (الأديار المنتشرة في أنحاء الكرسيّ الأنطاكيّ)، أو على مستوى التعليم اللاهوتيّ العالي (معهد القدّيس يوحنّا الدمشقيّ في البلمند).... هذه، وغيرها كثير، سَواءٌ أَمُهِرت إداريًّا باسم حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة أم لم تُمهَر، هي من ثمار الروح المحيي الذي هبّ في أنطاكية في فجر مبارك من آذار 1942.

تلك كانت الرؤية. إنّها الأساس الذي وضعه الأوّلون، وعلى هذا الأساس يجب الاِستمرار في تنشئة الأجيال الحركيّة المتعاقبة كي يستمرّ انتقال الشعلة من جيل إلى جيل فنبقى على الأصالة. بهذا يعرف كلُّ مَن ينتسب إلى الحركة حديثًا أنّه إنّما ينتسب إلى تراث مَوصول غير منقطع، وسط شبيبة مَسَّها حبُّ المسيح فرأت فيه حياتها، فتجنّدت له، وجعلت من كنيسته المقدّسة، بقضاياها كافّةً، هَمّها وورشتها، بعدما آمنت أنّ عافيتها من عافية الكنيسة، وليس عافيتها وحدَها بل عافية العالم بأسره. ففي هذا السياق نقرأ للمطران جورج خضر، في محاضرة له قيّمة جدًّا ألقاها في مركز دراسات الآباء التابع للكنيسة القبطيّة الأرثوذكسيّة بمصر، بتاريخ 1/2/1999، تحت عنوان «الروحانيّة الأرثوذكسيّة»، أنّ القول بأنّ الكنيسة جزءٌ من العالم قولٌ غير صحيح؛ «إذ ليس العالم مَن يحتضن الكنيسة إنّما الكنيسة هي مَن يحتضن العالم». على هذه الرؤية ينبغي بناء الأجيال الحركيّة المتعاقبة حتّى يَرَوا إلى الحركة بشموليّتها، فتستقيم نظرتهم إليها ويدركون أنّ ما يقومون به فيها عملٌ رِساليّ عظيم جدًّا.

أمّا عمليّة البناء هذه (بناء الشخص) فمسار مَوصول يتحقّق، أساسًا وقبل كلّ شيء، بربط المنتسب إلى الحركة، أو الراغب في الانتساب، بالكلمة الإلهيّة التي في الكتاب المقدّس، أي بتربيته على أن يكون تُربة صالحةً لتَقَبُّل زرع الكلمة الإلهيّة. من على هذه القاعدة انطلقت الحركة وعلى هذه القاعدة استمرّت، وعلى هذه القاعدة ذاتها ينبغي للأجيال الحركيّة المتعاقبة أن تستمرّ، وإلّا نكون قد ضيّعنا البُوصلة. لم تَعِ الحركة ذاتَها يومًا إلّا أنّها حركة الكلمة، مدرسةٌ للكلمة الإلهيّة؛ ومتى أَخصَبَت هذه الكلمة في العضو الحركيّ فإنّها تُثمِر فيه حبًّا عارمًا يُترجمه، تلقائيًّا، خدمةً للقريب ولإخوة يسوعَ «هؤلاءِ الصغار». هذا ينبغي أن يكون عمل الفرقة الحركيّة، لذلك أستطردُ، هنا، لأُناشد الإدارة الحركيّة، حيثما وُجدَت، إعادة إحياء الفِرق حيث هي منحلّة وإعادة تكوينها. كانت الفرقة الحركيّة، دومًا، الخَليّة التي يتتلمذ فيها العضو الحركيّ على فكر الحركة الذي هو، أوّلًا وآخرًا، «فكر المسيح» (فيليبّي 5: 2)، وفيها يتعلّم كيف يدرس الإخوة معًا، وكيف يخدمون معًا، وكيف – وهذا هو الأهمّ – يصلّون معًا في شركة صلاتيّة تبلغ ذروتها وكمالها في سرّ الشكر الذي باشتراكنا فيه تتحقّق عضويّتنا في كنيسة المسيح، لكوننا في هذا السرّ، بتَحلّقنا حول الحمل، نتشكّل جماعةً شكريّة ليتورجيّة، وهذا هو المبتَغى. إنّ مناخ الصلاة الشكريّ هذا بالغ الأهمّيّة، إذ خارجه تبقى دراستنا مجرّد تَرف فكريّ ثقافيّ لا يُنشئ روحًا، وتبقى خدمتنا (عملنا الاجتماعيّ) مجرّد تَرفٍ اجتماعيّ لا يُضمّخه حبُّ يسوع، الذي منه حبُّ إخوته «هؤلاء الصغار»، في حين أنّنا، في كنيسة المسيح، لا نطلب الدراسة لأجل ذاتها، ولا الخدمة لأجل ذاتها، بل إنّما نطلب هذه وتلك لتكونا معًا بعضًا من ليتورجيا، عملًا تسبيحيًّا به يتمجّد اسم الربّ. في المحصّلة، كلّ ما تقوم به الحركة – بوصفها حركةَ الكنيسة وضمير الكنيسة – يبقى ناقصًا، أي يبقى مفتقرًا إلى العنصر الأساس الذي يحدّد هُويّته، ما لم يصبّ في سرّ الشكر ليعود فينطلق منه مُجدّدًا، وهكذا...

هذه هي الرؤية الحركيّة (بأل التعريف). على هذه الرؤية نحن جميعًا نُشِّئنا وعليها يجب أن نستمرّ في تنشئة الأجيال الحركيّة المتعاقبة، إذا شئنا أن تبقى الحركة حَدَثًا. علمًا أنّ هذا يتطلّب منّا وقفة ضمير دائمة نراجع فيها حساباتنا ونمتحن فيها أعمالنا (امتحِنوا كلّ شيء وتَمَسَّكوا بالحَسَن، 1تسالونيكي 21:5)، لنتأكّد من أنّنا ما زلنا على الخطّ الذي رسمه الأوّلون، وما زِلنا على الأمانة محافظين. هذه هي «محبّتنا الأُولى» التي يذكّرنا بها سفر الرؤيا والتي سنحاسَب عليها إنْ نحن أهملناها، كما حُوسبَ ملاكُ الكنيسة التي بأفسس لمّا خاطبه ملاك الربّ على لسان يوحنّا قائلًا له: «إليك ما يقول الذي يُمسك بيمينه الكواكب السبعة...: إنّي عليمٌ بأعمالك وجهدك وثباتك... فقد تحمّلتَ المشقّات في سبيل اسمي من غير أن تسأم. ولكنّ مأخذي عليك أنّك أهملتَ حُبَّك الأوّل...» (رؤيا 1:2- 4).

Loading...
 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search