العدد الرابع - سنة 2022

01 - الافتتاحيّة - الخطيئة إن كُشِفَت - الأب ميخائيل (الدبس) - العدد 4 سنة 2022

واقعنا

تتكاثر اليوم في أوساطنا ظاهرة انكشاف خطايا بعض من هم في موقع المسؤوليّة الكنسيّة. أخذت هذه الظاهرة، عبر أدوات التواصل المتطوّرة التي بين أيدينا، أبعادًا خطرة بلغت حدّ التشفّي والحقد، ودفعت بالداني والقاصي إلى التعميم والهزء بكلّ المقدّسات وبكلّ من هو في موقع المسؤوليّة. تناسى الناس خطاياهم أو، في أفضل الأحوال، ارتاحوا إليها وعلّقوها على من كشِفَتْ خطاياهم. لا بدّ، انطلاقًا من هذا الواقع المؤلم والهادم، من كلام نرجوه مسؤولًا وبنّاءً يضع مجمل شعب كنيستنا الأنطاكيّة، مع الرعاة والمسؤولين، أمام واجباتـهم في اتّخاذ الإجراءات والمواقف الرعائيّة البنّاءة، الواضحة والجريئة نبويًّا.

خديعة الخطيئة.

منذ واقعة السقوط، كحالةٍ إنسانيّة مخالفة لطبيعة الإنسان كما برأها اللَّه، والخطيئة تسود الإنسان وتأسره في حبائلها واهمةً إيّاه بأنّـها أليفته ورفيقة عمره من مهده إلى لحده. قَبِلَ مجمل البشر هذه الخديعة وسلك بموجبها معتبرًا الخطيئة صفةً طبيعيّةً له فهو المخلوق وليس الخالق والأخير وحده المنزَّه عن الخطأ، فلا سبيل له إلّا أن يستسلم لها ويتآلف معها. ورأى في ممارساتٍ دينيّةٍ سبيلًا ليحيا في سكون ضميره وهدأة دواخله فيعبر سنيّ عمره، على حسب ظنّه، بعيدًا عن اضطراباتٍ تأتيه من مناكفةٍ لخطاياه لا طائل منها. يلجأ، في أفضل الأحوال ومن حينٍ إلى آخر، إلى كاهنٍ ليقرأ على رأسه طلسمًا سحريًّا – إفشين الحلّ من دون البوح بخطاياه – أو، إذا كان متقدّمًا في تقواه، يردّد أمامه بعضًا من خطايا حفظها وتآلف معها، فيزيل عنه عبء خطاياه ويكتسب راحةً زائفةً لينطلق من جديد ململمًا، بطيب خاطر، خطايا أتتْه من تجارب اعتاد التجاوب معها، ولسان حاله أنّنا جميعًا خطأة «والعصمة للَّه وحده».

هذه حال أغلب من صنّف نفسه «مؤمنًا» بغضّ النظر عن وعيه مضامين هذا الإيمان. فالإيمان اللفظيّ شيء والإيمان الكيانيّ الواعي متطلّباته السلوكيّة شيء آخر.

 طبيعة الخطيئة.

من أسس متطلّبات السلوك الإيمانيّ الكيانيّ معرفة طبيعة الخطيئة وانعكاساتها على الشخص وعلى الجماعة. فالتعامل الشخصيّ مع الخطيئة، كما عرِضَ في مستهلّ هذه السطور، يعكس معرفةً سطحيّةً لطبيعة الخطيئة وتاليًا جهلًا لآثارها على الطبيعة البشريّة أشخاصًا وجماعةً. تفترض هذه المعرفة السطحيّة عبور الخطيئة في الشخص الإنسانيّ من دون أثرٍ ضارٍّ فيه وفي الجماعة وكأنّـها سترةٌ يخلعها صاحبها وينتهي الأمر. إفشين الحلّ، مع الاعتراف بالخطايا أو بدونه، يحلّ المشكلة ويتبرّر الإنسان. أمّا الجهاد المتلازم مع توبةٍ دائمةٍ، فيكون سرّ الاعتراف قطاعًا من قطاعاتـها، فلا يعني له شيئًا. فهو تبرّر لمجرّد أنّه مارس، ولو شكليًّا، سرّ الاعتراف أو تلِيَ على رأسه إفشين الحلّ الذي أسميته، أعلاه، «طلسمًا سحريًّا». أضف إلى ذلك ما تتضمنّه هذه المعرفة السطحيّة من تغافلٍ عن آثار الخطيئة المؤذية للجماعة الكنسيّة. وهذا ما نبغي الوقوف عنده تعليميًّا وبجرأة.

آثار الخطيئة في الشخص والجماعة.

لا توجد خطيئة شخصيّة ينحصر ضررها في خلاص الشخص المرتكب. كلّ تعامل مع الخطيئة في إطار هذا المنظور الشخصيّ البحت يزيد من انغماس الخاطئ في أناه، ويتركه متخبّطًا في خطاياه داخل حلقة مفرغة لا سبيل للخروج منها، ويتفاقم ضررها إلى تشكيك الجماعة وإعاقة مسيرة خلاصها.

كلّ خطيئة تؤذي مرتكبها ويتجاوز أذاها الشخص إلى الجماعة الكنسيّة، لا بل إلى مجمل المجتمع الذي يعيش فيه. وهذا ثبّته علم النفس الاجتماعيّ ومجمل الأدب النسكيّ الذي أكّد على أثر الخطيئة العميق في السلوك الإنسانيّ تجاه ذاته وتجاه الآخرين. إضافة إلى ما ثبّته علم النفس التحليليّ في هذا الشأن عندما تحدّث عن اللاوعي أو العقل الباطن والذي سبق لآباء البرّيّة، قبل مئات السنين، أن تحدّثوا عنه وأسْمَوْه «مغارة الوحوش التي في أعماق القلب» والذي يتحكّم في قطاع كبير من السلوك الإنسانيّ الواعي. فالخطيئة، في اللغة الكنسيّة، هي المغذّي المِدْرار لمغارة الوحوش هذه. وهكذا ندرك مقدار الأذى الذي يسبّبه الخاطئ لذاته وللجماعة. كانت الكنيسة الأولى تمارس سرّ الاعتراف علنًا أمام بعضها البعض استنادًا إلى وصيّة الرسول يعقوب: «ليعترف بعضكم لبعض بخطاياه» (يعقوب 5: 16) وتفترض هذه الوصيّة شمول أذى الخطيئة الجماعةَ المؤمنة، والاعتراف أمامها هي الخطوة الأولى لإصلاح الخطايا والمصالحة مع اللَّه والجماعة. بعد أن تخلّت الكنيسة عن هذا الشكل من الاعتراف، حصرته باعتراف سرّيّ بين المؤمن والكاهن الذي اعتبر مجسِّدًا للمسيح وللجماعة أيضًا.

لذا كان همّ الكنيسة، عبر آبائها ومعلّميها ومرشديها، لا أن تغفر خطايا أبنائها وحسب بل أن ترعاهم وتشفيهم من الآثار التي تركتها خطاياهم في كيانـهم، وتصونـهم من الأذى المتلازم معها والذي يطالهم والجماعة بمجملها.

انكشاف الخطيئة.

ما ذكِرَ يفترض عدم كشف المعرِّف لخطايا المعترِف وهذا ما تلحظه القوانين الكنسيّة، لأنّ كشفها يضاعف أذاها على المعترف وعلى الجماعة. فالأوّل يصبح أكثر عرضةً لسهام الإدانه غير المحِبَّة وللتشَفّي من طرف قليلي النضج في الإيمان وصغار النفوس في الجماعة. والثانية يطالها التشكيك المهلِك الذي حذّرنا الربّ منه وحكم على مسبِّبه أحكامًا قاسيةً. في حال انكشاف الخطايا، لسبب ما، وكان المرتَكِب في موقع مسؤوليّةٍ كنسيّةٍ، كما ذكِر في مستهلّ هذه الأسطر، فالقوانين الكنسيّة وضِعت لتحدَّ من الأذى والشكوك التي ستصيب جسم الكنيسة. تطبيق القوانين هي الوسيلة الأنجع ولكنّها، للأسف لا تطَبَّق. ماذا عسانا نقول، والحالة هذه، نحن أبناء هذه الكنيسة من منطلق المحبّة، محبّة الخاطئ ورعايته واحتضانه وخلاصه، ومن منطلق كفّ شرور التشكيك المهلكة عن أبنائنا ومنعهم من الغرق في بحر الخيبات والاستسلام لسَيْل خطاياهم؟

كلٌّ له خطاياه.

لا فرق بين خطيئة من هم في موقع المسؤوليّة الكنسيّة وخطيئة الآخرين من المؤمنين. الخطيئة خطيئة والكلّ مسؤول في المنظور الكنسيّ الجماعيّ وسهام الخطيئة أيًّا كان مرتكبها تطال الجسم الكنسيّ، كما أسلفنا. لكن تبقى الأنظار مشدودة أكثر على من هو مسؤول في الكنيسة لكونه مطالَبًا أكثر من غيره بأن يكون قدوةً للآخرين وأكثر نضجًا في سلوكه في الروح القدس. لكن وجب على الجميع ألّا يتناسوا خطاياهم وألّا يتلذّذوا بخطايا غيرهم، وأن تكون ألحاظهم مشدودة إلى دواخلهم وضعفاتـهم ليخرجوا الجذوع التي في عيونـهم حتّى يبصروا فيخرجوا القذى في عيون إخوتـهم.

الرئاسة الكنسيّة والمعالجة.

لم تكن الرئاسة الكنسيّة مسؤولة عن انكشاف خطايا بعض من هم في موقع مسؤوليّةٍ كنسيّةٍ بالشكل الذي حصل. إذ كان همّ الكنيسة وما يزال عدم التشهير بالخاطئ ودعوته إلى التوبة والاكتفاء بمعالجة مثل هذه الأزمات، التي لم تغب قطّ عن الجسم الكنسيّ، ضمن حلقة ضيّقة من أصحاب المعرفة والحكمة والتقوى. لكنّ الجميع يدرك مدى تفاقم الأذى والتشكيك اللذين يطالان شعبنا، وأيّ معالجة للأزمة و«لتطوّراتـها الأخيرة» و«تدابير تأديبيّة وإداريّة وقانونيّة» و«تقاعد» تتغافل عن تخفيف حجم الأذى والتشكيك الحاصلَين تبقى دون مستوى المسؤوليّة الملقاة على عاتق من هم في موقع القيادة والرعاية. اليوم مع تطوّر الإعلام ووسائل التواصل لا يمكن أن يخفى أيّ حدث عن أيّ بشر في العالم، لذا لا بدّ من معالجة هذه الأزمات بشفافيّةٍ ووضوح مغايِرَيْن لما كان يمارَس قبلًا ولـمّا يمارَس اليوم. الوضوح والشفافيّة وتسمية الأمور بأسمائـها لا يتناقضون والنهجَ الرعائيّ المحبّ ولا يعتَبَرون تشفّيًا وتشهيرًا – وهما قد وقعا أصلًا – بل استجابةً رعائيّةً لطلب الجماعة المؤمنة في معرفة حقيقة الأزمة من رعاتـها، ولعدم تسليم شعبنا لمتاهات الإعلام ووسائل التواصل المفتوحة لكلّ صاحب هوى وحقد ولامسؤوليّة، حقيقة تبنى على تحقيقٍ كنسيّ تعلَن نتائجه وقراراته التأديبيّة المتوافقة مع القوانين الكنسيّة، وتقْرَن باعتذارٍ علنيّ محبّ من طرف المرتكب لمن طالهم أذى خطيئته المنكشفة.

على آبائنا أن يكونوا أكثر حذرًا وتيقّظًا في اختيار من سيسَلَّم مسؤوليّةَ رعايةٍ في الكنيسة. وهذا ما ألمح إليه الرسول بولس واختصره بقوله «على الأسقف ألّا يناله لوم» (1تيموثاوس 3: 2). هو لم يقل ألّا تكون له خطيئة بل ألّا يناله لوم. مضامين هذا القول هي في ما تلا هذه الآية من الإصحاح الثالث. إذ لا يجوز اختيار أيّ شخص طاله لوم نتيجة عيب أو خطيئة مكشوفة للجميع. لفتني أنّ «آباء المجمع المقدّس تداولوا في لائحة الأهليّة للأسقفيّة وأقرّوها». أرجو ألّا تحصَر هذه الأهليّة بالتبتّل والسنّ والشهادة اللاهوتيّة.

بتوليّة الأسقف.

وهنا لا بدّ من بعض كلمات على بتوليّة الأسقف القسريّة. وهذه ضرورة لتلافي أزماتٍ كنسيّةٍ قادمةٍ لا محال في حال التمسّك بـهذا الشرط للأسقفيّة:

البتوليّة ليست مصعدًا لبلوغ الأسقفيّة. هي موهبة كرّستها الكنيسة بالروح القدس الفاعل فيها لخدمة أبنائها وتقديسهم. لذا قرِنَتْ بالرهبنة. والرهبنة جماعة نذرت البتوليّة الجسديّة والقلبيّة المتجسِّدة بعدم القنية والطاعة. كلّ متبتِّل خارج الجماعة الشركويّة وخارج الفقر وطاعة الجماعة المتمثّلة بالأب الرئيس، معرَّض أكثر من غيره ليكون مصدر تشكيك وأذى لجسم الكنيسة. هذا ما تقرّه قوانين الرهبنة وما قاله آباؤنا. لذا مطلوبٌ عدم التسرّع في تكريس متبتّلٍ قبل التأكّد من أنّه لا يدْفع إلى البتوليّة ليكون بيدقًا في لعبة التسابق على الأسقفيّة. إلغاء حصريّة الأسقفيّة بالمتبتّلين وإفساح بالمجال للمتزوّجين لبلوغِها ينقّي البتوليّة من الدخلاء عليها لغاية منفعيّة. من لا يأتِ البتوليّةَ عشقًا للربّ وافتقارًا لوجهه وطاعةً لمحبّته يسىِء إلى الرهبنة في كنيستنا. إفساح بالمجال للمتزوّجين لبلوغ الأسقفيّة يجعل المتبتّل الدخيل مدركًا أنّ بتوليّته الشكليّة لن تفيد مسعاه النفعيّ وأنّ أحدهم سيسبقه إلى الأسقفيّة لا لأنّه متبتّلٌ بل لأنّه «متقشّف... مضياف، أهلٌ للتعليم غير مدمن للخمر، حليمٌ ... لا يحبّ المال، يحسن تدبير بيته، لا تستولي عليه الكبرياء ويشهد له الذين في خارج الكنيسة» (1تيموثاوس 3: 1- 7).

هذا كلامٌ لم نرِدْ منه إدانةً بل تحفيزًا لنا لنجعل كنيستنا الأنطاكيّة سراجًا مضيئًا في ظلمة هذا الشرق، ولتكونَ المحبّة المسؤولة الدافع الوحيد لسلوكنا الكنسيّ.n

 

Loading...
 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search