ثلاثٌ إذا استبدّت بالإنسان تعكّر عليه صَفو تفكيره وصفاء نفسه: شهوة المال وشهوة السلطة وشهوة الجنس. هذه، إذا استبدّت بالإنسان، تقتل فيه حسّه الإنسانيّ فيغدو عديم الحسّ؛ وقديمًا حدّد القدّيس إسحق السريانيّ الخطيئة بأنّها «انعدام الحسّ». واللافت في هذه الشهوات أنّها متلازمة بحيث تستدعي إحداها الأخرى، فكأنّ بينها علاقةً جدليّة. فبالإجمال – ولا يجوز، هنا، الإطلاق – مَن حِيزَ له المال يدغدغه حبّ السلطة فيسعى إليها لظنّه أنّ المال الذي في حوزته هو مَعبَر شرعيّ إليها؛ أو تدغدغه شهوة الجنس لظنّه – بالذهنيّة الذكوريّة المستحوذة عليه – أنّه، بمجانسته الأنثى، يستطيع أن يمارس عليها بعضًا من سلطة؛ ذلك بأنّ الجنس، ما لم يكن تهجئة للحبّ الباذل والمبذول – وهذا حاصلٌ فقط في العلاقة الزوجيّة – يبقى شكلًا من أشكال السلطة يمارسها الرجل على المرأة، وبعضًا من تَملّك. هذا، مع العلم أنْ ليس في السلطة بحدّ ذاتها – وهي موضوعنا في هذه العجالة – ما هو سيِّئ.
ففي عالم يخضع لناموس الخطيئة والفساد، وقد اختلّ فيه ميزان الحكم لصالح القويّ على حساب الضعيف، ولصالح الغنيّ على حساب الفقير... فسقط فيه العدل وتمادى الظلم والظالمون، في هذا العالم لا بدّ من سلطة تراقب وتقمع الشرّ في مهده، أو، بالحدّ الأدنى، تَحدّ من جموحه واستشرائه فلا يستفحل. واقعيًّا، السلطة، من هذا المنظار، مطلوبة. أجل، ليس في السلطة ما هو سيِّئٌ إذا ابتغت ضبط الأشرار، وإقامة العدل، ورعاية حقوق الناس وصَون كراماتهم، وأن يكونوا متساوين أمام القانون. بتعبير آخر أكثر شمولًا، ليس في السلطة، مطلَقًا، ما هو سيّئ إذا ابتغَت خدمة الخير العامّ. وأكاد أقول – ولو بدا في كلامي ما هو مستغرَبٌ بعض الشيء أو مستهجَن – إنّ من اشتهى السلطة بهذا الهدف اشتهى شيئًا حَسَنًا. أمّا مَن اشتَهى السلطة للطغيان والاِستبداد والبَغي فقد اشتهى شيئًا رديئًا وفاسدًا، إذ تكون السلطة قد استحالت معه تَسَلّطًا، وهنا يكمن الخطر.
إنّ شهوة التسلّط – وهو الفرع الثاني من العنوان – خطيرة لأنّها تبطن، في نفس من تَحكّمت فيه، عقدة نقص أو عقدة تفوّق، وفي الحالَين معًا هي شهوةٌ مَرَضيّة ومؤذية. وإنّها كذلك لكونها، في التحليل النهائيّ، قاتلةً. إنّ مَن استبدّت به شهوة التسلّط واستعرَت فيه نارها هو، بمعنًى من المعاني، أو بمعيار من المعايير، قاتل. نعم، إنّ المتسلّط، كائنًا ما كان نطاق سلطته، وكائنةً ما كانت طبيعتها، قاتل أو مشروع قاتل. وإنّما هو كذلك لأنّه لا يقبل إزاء وجوده وجودًا آخر. إنّه يرفض أن يشاركه في الموجوديّة آخَر. إنّه إنسان ممتلئٌ من ذاته، مفتونٌ بها، مفعَمٌ عجبًا وصَلَفًا، فكأنّي به قد حَوّل جدران بيته مرايا كيلا يرى، كيفَما تَلَفَّتَ، إلّا صورتَه. إنّه فردانيّ، شخصانيّ حَدّ الصنميّة، فكأنّه واحد من أوثان الأمم التي «لها أفواه ولا تتكلّم، لها عيون ولا تبصر، لها آذانٌ ولا تسمع...» (المزمور 135 : 16 و17). المتسلّط إلغائيّ، وبهذا المعنى هو قاتل. إنّه يقتل معنويًّا إذا لم يقتل جسديًّا، وفي الحالَين معًا القتل حاصل. ولا شكّ عندي في أنّ هذا ما جعل السيّد – وهو «العارف ما في القلوب» وما تختلج به النفس الإنسانيّة من شهوات حميدة أو ضارّة– يَنهَى تلاميذه عنِ اشتهاء التسلّط، إذ قال لهم: «تعلمون أنّ رؤساء الأمم يَسودونها وعظَماءَها يتسلّطون عليها، فلا يكن هذا فيكم. بل مَن أراد أن يكون كبيرًا فيكم فليكن لكم خادمًا، ومَن أراد أن يكون الأوّل فيكم فليكن لكم عبدًا. هكذا ابن الإنسان...» (متّى 25:20- 28). لكأنّ السيّد، بسابق علمه، كان يرى في شهوة التسلّط خطرًا يتهدّد كنيسته وليس فقط العالم، فحذّر تلاميذه منها. فكما في العالم كذلك في الكنيسة، إذ ليس رعاة الكنيسة – أساقفةً كانوا أم كهنة – ولا المسؤولون فيها بمنأى عن هذه التجربة. لذلك نصّت القوانين الكنسيّة على ألّا يؤتى إلى الأسقفيّة إلّا بمن تحرّر من الأهواء الرديئة ومن عبوديّة الـ «أنا»، وبات على طريق التطهّر فالاستنارة، وإلّا تَحوّلت العصا في يد الأسقف إلى أداة للقمع ووَأْد المواهب، بينما هي، في الأصل، عصا رعاية وتأديب.
أجل، إنّ شهوة التسلّط، بل عقدة التسلّط، أشدّ ما تكون نفورًا متى برزت في كنيسة المسيح، ذلك بأنّ فيها خيانةً عظمى لسيّد الكنيسة الذي نَهى تلاميذه عن هذه الشهوة. وفي هذا السياق أتجاسر وأزعم أنْ لا سيادة في الكنيسة ولا سلطان بالمفهوم الدهريّ لكِلا المصطَلَحَين. ليست الكنيسة مؤسّسةً أرضيّة؛ إنّها مؤسّسة سماويّة، جذورها في السماء فوق، ومن السماء تنعطف على الأرض وجوهًا بشريّة خادمة. ولذلك، فإنّ ما يصحّ في «المدينة» الأرضيّة، في هذا السياق، لا يصحّ في الكنيسة. وحدها المحبّة في الكنيسة هي السيّدة وسلطانها هو السلطان. الكنيسة راعية، وترعى بالحبّ الذي هو، أصلًا، حبّها لسيّدها مَوصولًا منه إلى خرافه. وفي هذا السياق يحضرني قول السيّد لبطرس ثلاثًا: «يا سمعان بن يونا، أَتحبّني أكثر ممّا يحبّني هؤلاء؟ أجابه: نعم يا ربّ... فقال له: إِرعَ خرافي» (يوحنّا 21: 15– 17). وإذ يحضرني هذا القول السيّديّ أستنتج منه أنّ الأسقف في الكنيسة، أو الكاهن، هو، أوّلًا وآخرًا، راعي غنم، يرعى خراف المسيح الناطقة؛ ولأنّه يحبّ المسيح فهو يحبّ خراف المسيح ويرعاهم بالحبّ ذاته، الحبّ الذي منه الصبر والرِفق والاحتضان. وإذا اقتضى الأمر تأديبًا – وهذا وارد، بل ومطلوب في بعض من الحالات – ولأنّ التأديب في الكنيسة لا يضادّ الحبّ، بل ربّما كان إحدى ترجماته، فهو يلجأ إليه على قاعدة أنّ «الذي يحبّه الربّ يؤدّبه» (عبرانيّين 6: 12)؛ أي أنّه يؤدّب لإصلاح النفس وتقويمها لا للتشفّي والانتقام؛ يؤدّب ليقول الحبّ.
هذا هو الفارق الأساس بين التسلّط، من جهة، وسلطة المحبّة، من جهة أخرى. فالمتسلّط لا يرى وجوده إلّا على حساب الآخر، فيما المحِبّ يراه بمعيّة الآخر، بل لأجله، وشَتّان ما بين الوجودَين. مِن هنا جاز القول إنّ المتسلّط يقضي حياته على الأرض مستبِقًا جحيمه، فيما المحبّ يقضيها مستبقًا فردوسه، فكأنّ حياته الأرضيّة فصحٌ مقيم يذوق فيها، مسبَقًا، «ما أَطيَبَ الربّ»، وشَتّان ما بين الحياتَين.
أَختم لأقول إنّ قاموس الكنيسة، المدينة السماويّة، يختلف، جذريًّا، عن قاموس المدينة الأرضيّة. إنّه قاموس الإنجيل، قاموس المحبّة. وفي هذا القاموس تتّخذ المصطلحات معانيَ أخرويّة وأبعادًا أخرويّة، لأنّه ليس مَصوغًا من لغة هذا الدهر إنّما من لغة الدهر الآتي.