هل الكورونا تهديد أم بركة؟
إزاء ثقل خطورة العدوى في زمن الكورونا الذي يجتاح العالم التزمت القيادات الكنسيّة بإرشادات السلطة المدنيّة للحيطة والحذر كي تحافظ على سلامة المؤمنين الجسديّة، وذلك امتثالاً بيسوع الذي لم يطف معلّمًا وكارزًا في المدن والقرى فقط، بل ذهب يشفي كلّ مرض وضعف في الشعب (متّى 4 : 24). هكذا فإنّ إغلاق دور العبادة كلّيًّا أحيانًا أو جزئيًّا أحيانًا أخرى، لم يكن عن ضعف إيمان، بل عن ثبات في إيمان لا يتزعزع بأنّ الربّ هو دائمًا في ما بيننا ويده دائمًا تشفي وتقوّي،كما تؤكّد لنا كلمات كاتب المزمور: «أحمدك يا ربّ من كلّ قلبي...إن سلكت في وسط الضيق تحييني... وتخلّصني يمينك» (مزمور 138: 1 و7 و8). وإن صعدت إلى السموات فأنت هناك. وإن فرشت في الهاوية فها أنت. إن أخذت جناحي الصبح وسكنت في أقاصي البحر. فهناك أيضا تهديني يدك وتمسكني يمين. فقلت إنّما الظلمة تغشاني. فالليل يضيء حولي. الظلمة أيضًا لا تظلم لديك والليل مثل النهار يضيء. كالظلمة هكذا النور» (مزمور 139: 7- 12). وكذلك إن احتجرت في البيت دون الإخوة في الكنيسة «أنت هناك».
وكما كان الربّ مع الرسول بطرس في السجن (أعمال 12: 1- 5)، فهو معنا وفي ما بيننا أيضًا نائمًا في سفينة الكنيسة (متّى 8 ومرقس 4 :38- 40).
في الضيقات والشدائد والخوف والشكّ «اللَّه ملجأ لنا وقوّة عون في الضيقات وجد شديدًا. لذلك لا نخشى ولو تزحزحت الأرض ولو انقلبت الجبال إلى قلب البحار» (مزمور 46: 1- 3 ). هذا هو ميراثنا الذي أعطي لنا: ميراث البنين في جرن المعموديّة.
وباء الكورونا زحزح الأرض وغيّر وجهها. المؤمنون منكفئون كلّ في بيته معزولون بعضهم عن بعض، كلّ منفصل عن الأحبّاء والأصدقاء. كثيرون منّا محبطون في حجر منزليّ يحول دون اشتراكهم في مائدة الربّ وسط الكنيسة المجتمعة، وذلك حماية للقريب الذي نحبّ. بيد أنّ اللَّه ما زال لنا حصنًا وسلامًا وقوّة ولو بدا لنا نائمًا في سفينتنا وسط عاصفة هوجاء. إنّها عاصفة تكاد تطيح بكلّ ما نحبّ بيد أنّها تخفي في هيجانها وعدًا ورجاء. إنّه نداء الربّ لنا لنقترب إليه كأولاد طارحين عنّا كلّ شعور بسخط صلاح نفسي أو شفقة على الذات، ومتسلّحين برجاء متواضع صبور.
كثيرون هم القدّيسون الذين حُرموا من تناول جسد الربّ ودمه، وذلك لفترات زمنيّة يصعب علينا أن نتصوّرها. بيد أنّها كانت لهم فترات نموّ من مجد إلى مجد، إذ إنّهم ثبتوا في تواصل حارّ مع الربّ في الصلاة.
الصلاة ليست بالأمر الهيّن. إنّها تتطلّب منّا حبًّا للمخلّص كبيرًا وتكريسًا صادقًا. بيد أنّنا بواسطتها نستطيع أن نلمس هدب ثوب المخلّص ونشعر به يلمسنا إذ تخرج قوّة من عنده إلى نفوسنا المرتبكة تمامًا كما حصل للمرأة النازفة الدم: الربّ يسوع كان يبحث عن لمسة الإيمان هذه. جاءت المرأة خائفة ومرتعدة فسمعت كلمات أتت ترجوها بحرارة: «ثقي يا ابنة إيمانك قد شفاك اذهبي بسلام» (متّى 9: 20 - 22).
هكذا فإنّ الكورونا تعلّمنا درسًا أوّل ألا وهو أن ننهد لنلمس الربّ على مذبح قلوبنا فيلمسنا هو بمحبّته وسلامه.
إذ نجتاز معًا أزمة الكورونا لنطلبنّ إلى الربّ أن يمنحنا موهبة الصلاة الحقّ فيسعى كلّ منّا، حيثما يحتجزه حجره، إلى ألّا يكرّر كلام الصلوات كمن لا رجاء لهم، بل ليدخل بالحريّ إلى مخدع القلب ويغلق الباب ويصلّي لأبيه في الخفاء، لأنّه أب يعلم ما نحتاج إليه قبل أن نسأله (متّى 6: 6 و7). وفي مخدع القلب، في الخفاء، لنقرّبنّ للربّ توبة اللصّ الصادقة وشكر فرح الغفران.
كتب ثيوذوروس الناسك الذي من إديسا في سوريا في القرن التاسع: «الصلاة هي حصن منيع، ومرفأ آمن، حامٍ للفضائل، يطفىء الشهوات، يمنح الروح نشاطًا، يطهّر العقل، يمنح المتعبين راحة، يعزّي الحزانى. الصلاة هي مناجاة للربّ، تأمّل بما لا يُرى، دخول إلى شركة حياة الملائكة، قفزة إلى مرتع القداسة، ثقة بما هو مرتجى».
ويضيف القدّيس صفروني سخاروف الذي من إسّكس (1993- 1896) «الصلاة هي عمليّة خلق تفوق العلم في إبداعها. في الصلاة ندخل في شركة مع من هو الكلمة الأزليّ الذي كان في البدء... الصلاة هي بهجة الروح».
تعليم آخر تركه لنا الشيخ القدّيس إيمليانوس رئيس دير سيمونوبترا في جبل آثوس (1934- 2019) وكان من المعروف عنه أنّ حبّه للقدّاس الإلهيّ لا مثيل له: «من غير المجدي أن نذهب إلى الكنيسة وأن نشترك في القدّاس الإلهيّ ونتناول جسد الربّ ودمه إن لم تكن حياتنا كلّها صلاة متواصلة».
ويواصل الشيخ إيميليانوس في مكان آخر موضحًا لنا أنّ حياة الصلاة لا تقتصر على الرهبان في الأديرة. إنّها ميراث يلتزم به كلّ مؤمن بفرح. يكتب: «إنّ الأذى الذي يصيب نفس من لا يعرف كيف يصلّي لا حدّ له لا بل هو الأذى الوحيد الذي يحفر في النفس ألـمًا وخرابًا كارثيّين. إن اصطدمت كلّ النجوم والكواكب بعضها ببعض وتحطّم الكون كلّه، حينئذ ما يحصل هو أقلّ دمار قد يصيبنا من الخراب الذي يعترينا إن لم نعرف كيف نصلّي». لربّما كانت إحدى رسائل الكورونا لنا أنّه فتح أعيننا لندرك أنّنا لا نجيد مخاطبة اللَّه في مخادع قلوبنا.
لا نستسلمنّ إلى التجربة التي هي أمامنا ألا وهي أن نصمّ آذاننا إلى نداء التدرّب على الصلاة الحارّة التي تنبع من القلب، وننزلق تاليًا في سبيل أهين لا يتطلّب منّا جهدًا كبيرًا، إذ يقتصر على ترداد نصوص ليتورجيّة وهي، على عمقها، قد تبقينا في ترداد كلمات حفظناها غيبًا مختزنة في عقولنا، ولا تنزل إلى القلب دعاء حقًّا. حان الوقت لنعي أنّ الصلاة الحقّ هي التي تنبع من القلب حيث نلقى الربّ سيّدًا على قلوبنا. داخل القلب، في خدر النفس، مسكن لإله متجسّد ختن لنفوسنا المتعبة.
هذا الكنز المخفي في سريرة كلّ منّا هبة وباء الكورونا لنا. إن اقتبلنا نداء كهذا بصدق وجدّيّة سنجد أنّنا، متى تسنّى لنا أن نجتمع معًا ثانية لنقيم القدّاس الإلهيّ دونما حاجز مخاطر وباء تردعنا، نتلقّى إذ ذاك تعزية تفوق كلّ تعزية خبرناها من قبل. نكون قد تعلّمنا بالفعل كيف «نطرح عنّا كلّ اهتمام دنيويّ لنستقبل ملك الكلّ مزفوفًا من المراتب الملائكيّة بحال غير منظورة»، ونضمّ أصواتنا إلى أصواتها منشدين «هللويا».
قوّة الصلاة
يحدّثنا قدس الخورسقف لورنس فارلي، راعي كنيسة القدّيس هيرمن في ألاسكا، في مقال له بعنوان «ذراعا موسى المرفوعان»، عن قوّة الصلاة إذ يتأمّل في الفترة التي تلت خروج الشعب العبريّ من عبوديّة مصر، حين أدركوا في هيامهم سفح جبل سيناء. واجهتهم إذ ذاك ضيقات كثيرة في صحراء قاحلة: جاعوا وهم متّجهون جنوبًا إلى غرب شبه جزيرة سيناء فأحاطت بهم عناية اللَّه الذي أرسل لهم منًّا من السماء. أصابهم خطر الموت عطشًا فاستجاب اللَّه لدعائهم وسقاهم ماء من الصخرة. داهمهم ضيق أكبر ألا وهو خطر الموت على يد شعب عماليق -أو العمالقة - الذين أخذوا يشنّون عليهم غزوات عدّة وهم متّجهون إلى أرض كنعان في صحراء النجف (عدد 13: 29). علم العمالقة أنّ العبرانيّين كانوا يقصدون شبه جزيرة صنعاء وأرادوا صدّهم عن المرور في أرض كانوا يعتبرونها ملكًا لهم. لذلك أخذوا يعتدون عليهم ويقضون على من تباطأ من بينهم في اتّباع جمهرة الشعب المرتحل من عجّز ومرضى ومسنّين وأطفال (تثنية 25: 17- 18).
اتّصفت هجماتهم بالمكر والخبث، والشعب العبريّ لم يكن مؤهّلًا للحرب، إذ غادروا أرض مصر حاملين معهم ما يلزمهم لإعداد الطعام من طناجر وصحون وأيضًا بعض الفضّة والذهب، بيد أنّهم ما كانوا يملكون سلاحًا لشنّ المعارك أو للحماية من عدوّ مسلّح ومدرّب على القتال مثل العمالقة.
لم ينجح رجال العبرانيّين في صدّ هجمات العمالقة ووجدوا أنفسهم بلا حول ولا قوّة، بينما كان العمالقة ينقضّون على كلّ من كان ضعيفًا في صفوفهم يقتلونهم بحدّ السيف ويفرّون هاربين (1صموئيل 30: 1- 2). العمالقة لم يكونوا مجرّد قبيلة من قبائل الصحراء، بل يظهرهم لنا الكتاب ككيان يجسّد شرًّا متفشّيًا وباطشًا. إنّهم يشبهون وباء فيروس كورونا الذي يمضي مبتلعًا كلّ ضعيف وكلّ عاجز. وحتّى من بعد أن استقرّ الشعب في أرض كنعان، وأسّس له مملكة وازدهرت المملكة أيّام داود الملك، استمرّ العمالقة يهاجمون القرى في الريف ويسبون نساء وأطفالًا (1صموئيل 30: 1- 2). بيد أنّنا نقرأ في سفر الخروج عن عناية اللَّه بالشعب (خروج 17: 8 - 16): يشير موسى إلى يشوع لينتقي رجالًا يحاربون عماليق متى أغاروا على الشعب. طبعًا ستكون معركة غير متكافئة، لأنّ العمالقة كانوا محاربين متمرّسين باستخدام الأسلحة، في حين أنّ العبرانيّين كانوا عبيدًا اعتقوا حديثًا لا يجيدون القتال، حتّى إنّهم لم يكونوا يمتلكون خبرة في الحرب ولا موارد لشنّ المعارك. الشجاعة لم تكن لتكفيهم. كانوا بحاجة ماسّة الى معونة إلههم. وأتى العمالقة يحاربون الشعب في سهل رفيديم. فصعد موسى إلى رأس الجبل هناك حاملًا بيده عصا الرعاية. ووقف يصلّي بحرارة وذراعاه مرفوعتان إلى العلاء. وطالما بقيت ذراعا موسى مرفوعتين في الصلاة كان العبرانيّون ينتصرون في ساحة المعركة. بيد أنّه إن تراخى وخفض ذراعيه ينتصر عماليق. فأتى هارون وحور زوج مريم أخت موسى ووضعا حجرًا هناك ليجلس عليه موسى، ووقف أحدهما إلى جنبه الأيمن والآخر إلى جنبه الأيسر يسندان ذراعيه لتبقيا مرفوعتين حتّى غروب الشمس. هكذا انتصر الشعب على عماليق (خروج: الإصحاح 17). وأشار الربّ إلى موسى أن ينصب مذبحًا هناك ليتذكّر الشعب أنّ «للَّه حرب مع عماليق من دور إلى دور» (خروج 17: 16). وأقام موسى مذبحًا على كتف الجبل وكتب عليه: «الربّ رايتي» لأنّ الشعب انتصر في رفيديم بقوّة الربّ.
حدث انتصار الشعب في رفيديم ينذرنا بنبوءة وبدرس: أمّا النبوءة فهي في انتصاب موسى على التلّة وذراعاه مرفوعتان بالصلاة. كان كلّ من رفع نظره إلى رأس التلة يراه هناك، ويرى ذراعيه مرفوعتين في نجوى متواصلة للَّ. وعند الغروب كان موسى ما يزال على رأس التلّة وذراعاه مرفوعتان يسندهما رجلان، واحد عن اليمين والآخر عن اليسار. صلاة موسى في ذلك اليوم الطويل جعلت الشعب ينتصر على عماليق.
وبعد مئات من السنين قرأت أعين آباء الكنيسة في ما دون عن معركة رفيديم، نبوءة حدث آخر عن إنسان انتصب على تلّة أخرى منعزلًا وذراعاه ممدودتان، محاطًا بضجيج عالم أعداء شعب اللَّه، أعداء مرئيّين وغير مرئيّين. ذلك الرجل هو أيضا بدا عن يمينه وعن يساره رجلان يشهدان لصلاته المرفوعة إلى اللَّه الآب. ذراعاه الممدودتان حقّقتا حياة للإنسانيّة جمعاء.
ذراعا موسى في القديم كانتا رسمًا لذراعي يسوع الممدودتين، والتلّة التي وقف عليها موسى يصلّي في شبه جزيرة صنعاء كانت رسمًا لتلّة الجلجثة. موسى رفع ذراعيه حتّى المساء وحتّى انتصر الشعب في القديم على عماليق، وذراعا يسوع بقيتا ممدودتين على الصليب حتّى الساعة التاسعة، محقّقتين إبادة الموت ونعمة حياة خلاصيّة لكلّ من يرفع نظره إليه.
أمّا الدرس الذي نتعلّمه من المعركة فيشير إليه المذبح الذي قال اللَّه لموسى أن ينصبه. موسى كتب على المذبح «الربّ رايتي» ليعلن للشعب أنّه موكل من ربّ الجنود ليستمرّ في حرب ما زالت قائمة، كما يذكر لنا الكتاب في سفر الخروج: «للربّ حرب مع عماليق إلى جيل فجيل» (خروج 17 :16). نحن أيضا شعب اللَّه الجديد موكلون لنشنّ حربًا بقوّة اللَّه ضدّ عماليقنا إلى أن يحقّق اللَّه عبرنا وفينا نصرًا أبديًّا.
بيد أنّ «مصارعتنا ليست مع لحم ودم بل مع الرؤساء، مع السلاطين، مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشرّ الروحيّة في السماويّات» (أفسس 6 :12). تشير إلينا الكنيسة لننضمّ إلى صفوف المحاربين تحت راية اللَّه ضدّ «أجناد الشرّ الروحيّة». إنّنا جميعًا، نحن الذين غطسنا في جرن المعموديّة، نلنا «ختم الروح القدس» وذلك بمسحة الميرون المقدّس، وهو ختم عساكر جيش يسوع المسيح ربّنا. سلاحنا هو صلاة نرفعها كلّ يوم في حرب غير منظورة ضدّ جيوش العمالقة التي تحيط بنا، والربّ رايتنا وقوّتنا مذ رفع ذراعيه على الصليب. النصر النهائيّ في المعركة قد تحقّق فيه هو مذ قال على الصليب «قد أكمل» (يوحنّا 19: 30)، فنزل إلى جحيم المعركة غالبًا وانتصر على جحافل الظلم والموت.n
يتبع في العدد القادم