تشكّل قصّة «الماما المسكوبيّة» أو ماريّا ألكسندروفنا تشيركاسوفا، التي أسّست أوّل مدرسة مسكوبيّة في لبنان، نموذجًا كبيرًا عن التضحية والبذل والعطاء باسم الإنسانيّة والعلم والمحبّة. ماريّا تشيركاسوفا هي عضو فخريّ في الجمعيّة الأمبراطوريّة الأرثوذكسيّة الفلسطينيّة. ولدت في مقاطعة نوفغورود، من عائلة أرستقراطيّة مقرّبة من العائلة الحاكمة في روسيا. منذ نعومة أظفارها شعرت برغبة في تقديم نفسها للعمل التطوّعي التعليميّ، فافتتحت مدرسة في بلدتها الأمّ بارافيتش لتعليم أطفال الفلّاحين، وعملت فيها وفق النظام والقيم المسيحيّة الأرثوذكسيّة الملتزمة والصارمة سنوات عدّة من دون مقابل. سافرت إلى اليابان وعملت مساعدة للأسقف نيكولاي على تعليم الأطفال اليابانيّين. غادرت اليابان عائدة إلى الوطن وفي طريق العودة بحرًا، قررت ماريّا زيارة الأراضي المقدّسة للصلاة، وخلال وجودها في القدس تعرّفت إلى الأرشمندريت أنطوني كابوستين، فعرضت عليه خدماتها في عالم التعليم من أجل افتتاح مدرسة نسائيّة في بيت جالا، إلّا أنّ الظروف قادتها إلى لبنان وبدأت العمل في تعليم اللغة الروسيّة في المدارس الأرثوذكسيّة المحلّيّة.
منذ العام١٨٨٥ بدأت تشيركاسوفا بتعليم الأطفال اللبنانيّين في المدارس الأرثوذكسيّة في بيروت. بعد فترة افتتحت «الماما المسكوبيّة» مدرسة روسيّة (مسكوبيّة) بإشراف مفتّش الجمعيّة الأمبراطوريّة الأرثوذكسيّة الفلسطينيّة بيتكوفيتش، وكان ذلك في 22 أيلول 1887. كرّس مثلّث الرحمة مطران بيروت غفرائيل (شاتيلا) المدرسة الجديدة في منطقة المصيطبه بين فقراء الأرثوذكس، بعد أن استأجرت البيت بـ4500 قرش وكانت المدرسة الروسيّة الأولى في لبنان.
ومنذ ذلك الحين ولأكثر من ثلاثين سنة متواصلة عملت ماريّا ألكسندروفنا في لبنان، من دون كلل أو ملل، في خدمة الكنيستين الأنطاكيّة والروسيّة وفي تعليم الأطفال اللبنانيّين كما تقول لمجد اللَّه، من دون الأخذ بالاعتبار الصعاب والمعوقات وتقدّمها بالعمر. افتتحت تشيركاسوفا أولى هذه المدارس في حيّ مار إلياس في بيروت العام 1887 وبلغ عدد تلامذتها 120 تلميذًا وعدد أساتذتها 20. في العام 1890 افتتحت المدرسة المسكوبيّة الثانية مدرسة رئيس الملائكة ميخائيل في حيّ المزرعة وفيها 110 تلاميذ، مع الـعلـم أنّه وفي تلك السنة بلغ عدد تلامذة المدرسة الأولى 280 تلميذًا، وكان يساعد تشيركاسوفا في هذه المدرسة الأب غيورغي. في العام 1891 افتتحت المدرسة الثالثة، مدرسة القدّيس نيكولاي في حيّ الرميل الفاخر في الأشرفيّة وهي بدأت بـ 300 تلميذ ووصل عددهم أحيانًا إلى 400 تلميذ مع 10 أساتذة، وبعدها افتتحت المدرسة المسكوبيّة الرابعة في السيّدة في رأس بيروت مع 60 تلميذًا. وفي العام 1897 وبطلب من المطران غفرائيل افتتحت مدرسة مار جرجس في حيّ الرميله مع 150 تلميذًا من بين التلامذة كان هناك 20 تلميذًا مارونيًّا.
كلّ هذه المدارس باستثناء مدرسة السيّدة في رأس بيروت كانت مبانيها مستأجرة، وكان أصحابها يطلبون أجورًا مرتفعة، في حين أنّهم لا يقومون بما يلزم من أعمال الترميم. ولذلك قامت تشيركاسوفا بشراء قطعة أرض واسعة في رعيّة مار إلياس وأقامت حديقة كبيرة وبنت عليها بناء من طبقتين، الأولى للصفوف والتعليم، والعلويّة للاستقبال ولإقامتها ولمساعدتيها الدائمتين عفيفة وأسما عبدو، وقد ترك البناء انطباعات طيّبة لدى السكّان المحلّيّين. استجابت «الماما المسكوبيّة» لطلب السكّان المحلّيّين واستقبلت فيها الأطفال من الجنسين وقسّمتها إلى قسمين للذكور وللإناث، لكنّها اكتشفت بعد حين أنّه من الأفضل فصل الذكور عن الإناث، ولذلك اشترت أرضًا ملاصقة وبنت عليها مبنى للذكور حيث انتهى العمل على تجهيزه في 1 آذار 1907 وعمل في هذه المدرسة عدد كبير من معلّماتها من بينهم أسما عبدو ولويزا بحمدوني.
تشيركاسوفا لم تكن تتقن اللغة العربيّة، لكنّ طموحها ومحبّتها للبنان ولشعبه وللأطفال الذين استقبلتهم في مدارسها، جعلها تستعين بالمدعوّة عفيفة عبدو التي عملت كأستاذة وسيطة بينها وبين الأطفال، وكانتا تستعملان اللغة الفرنسيّة للتخاطب. لكنّ السيّدتين قرّرتا أن تتعلّم كلّ منهما لغة الأخرى، وهكذا بدأت تشيركاسوفا بدراسة اللغة العربيّة بإشراف عفيفة عبدو، وتابعت عبدو مع تشيركاسوفا دراسة اللغة الروسيّة. كانت النتيجة باهرة فعلًا، فأصبحت تشيركاسوفا تستطيع التعبير والقراءة باللغة العربيّة، فيما راحـت عبدو تعبّر بحـرّيّة باللغة الروسيّة. معرفة «الماما» بلغة السكّان المحلّيّين سـاعـدتها عـلى التخاطب معهم وفـهم طبيـعـة التـلامذة وذويهم بصورة فضلى. هذا الأمر زاد التقارب بينها وبين اللبنانيّين وجعل التواصل بين إدارة المدارس المسكوبيّة في بيروت والتلامذة يتحسّن باستمرار.
فاق نجاح المدرسة المسكوبيّة الأولى كلّ التوقّعات، ما ترك آثارًا واضحة على علاقة سكّان بيروت بمؤسّستها تشيركاسوفا، بخاصّة وأنّها تعاملت بالكثير من الحبّ والورع والأخلاق مع تلامذتها، حتّى باتت تعرف في كلّ أحياء بيروت بـ «الماما المسكوبيّة» تحبّبًا واعترافًا بدورها وعلاقة الأمومة التي كانت تربطها بتلامذتها وأساتذتها، فأحبّها الجميع وقدروها وكانت دائمة التقرّب من التلامذة فتتفهّم همومهم وتحاول حلّ مشاكلهم، تقف عند حاجاتهم وعند مطالب أهاليهم، وتسعى باستمرار إلى تطوير عمل مدارسها لصالح تطوير التعليم ورفع شأن تلامذتها العلميّ والأخلاقيّ، والتفتيش المتواصل عن سبل راحتهم.
ارتبط الأطفال بماريّا تشيركاسوفا بعلاقة مودّة ومحبّة كبيرتين، وبادلتهم ماريّا المحبّة. تركت تشيركاسوفا أثرا لا يمحى وبصمات تصعب إزالتها فقد علّمت مدارسها آلاف التلامذة وأنشأت جيلًا من المتعلّمين والمثقّفين. وساعد حبّها للأطفال على تعميق الربط بين الأسر اللبنانيّة وروسيا، كما ترسخت كلمة المسكوبيّة في أذهان اللبنانيّين وقلوبهم. شكّلت تشيركاسوفا مثالًا يحتذى بالأخلاق والقيم والتعبّد ورمزًا للتواضع والإيمان باللَّه، للكثير من تلامذتها وأساتذة مدارسها. تشيركاسوفا هي الوحيدة من المسؤولين عن الجمعيّة والمدارس المسكوبيّة في بيروت التي بقيت في لبنان بعد اندلاع الحرب العالميّة الأولى، فلاحقها الأتراك وتعرّضت لمضايقات عديدة من جانب المحتلّ العثمانيّ، لكنّها لم تترك لبنان وتلامذتها حتّى إنّها طيلة هذه السنين لم تغادر إلى وطنها الأمّ إلّا مرّة واحدة وبعد 10 سنوات من وصولها إلى لبنان وسرعان ما عادت من إجازتها لتواصل عملها، إلى أن وافتها المنيّة في العام 1918.
تركت «الماما» بلادها وغادرت بعيدًا عن تراب الوطن وحضنه الدافئ إلى بلاد تجهلها ولا يجمعها معها إلّا العقيدة الإيمانيّة، فأخلصت لعملها وتفانت في خدمة الأجيال الصاعدة في بلد الغربة لبنان، لا لشيء إلّا حبًّا وإخلاصًا لعقيدتها وللإنسانيّة جمعاء. كرّست تشيركاسوفا حياتها لخدمة أطفال بيروت ولبنان وتعليمهم وتنشئتهم، وأعطت الغالي والنفيس في سبيل هذه المهمّة النبيلة. لم تنس بيروت تضحيات «الماما المسـكوبيّة» ومحبّتها وإخلاصها فأطلق على أحد الشوارع الملاصقة لمدرسة مار إلياس التي أسّستها، اسم «الماما» تكريمًا لها واعترافًا بجهودها. كما تحوّلت المدرسة التي أقامتها إلى مبنى للسفارة الروسيّة في لبنان حاليًّا.