العدد الأوّل - سنة 2021

10 - دراسة كتابيّة - التجارب والضيقات مرورًا بسفر أيّوب وصولاً إلى القدّيس يوسف الهدوئيّ - أندي قليمة، ود. إلياس صافتلي - العدد 1 سنة 2021

1- هل من جواب في كنيستنا عن التجارب والضيقات التي يكابدها البشر؟

يشهد هذا العالم الذي نعيش فيه العديد من الآلام، والضيقات، والمآسي، عبر التاريخ على الصعيد الجماعيّ، أو مع كلّ شخص بمفرده. يتساءل كثيرون حـول مـصـدر هذه الآلام والضيقات وعن سبب حصولها. فينسبها البعض إلى اللَّه، والبعض الآخر يصفها بتجارب، وآخرون يعتبـرونها امتحـانًا. منهم من يعتبر أنّ اللَّه يجرّب البشر، ومنهم من يشدّد على أنّ اللَّه لا يجرّب ولكنّه يسمح بهذه الأمور لتحـصل بسـبب إعطائه الحـرّيّة للبشر.

تزداد حدّة هذه الأسئلة عندما نبدأ بالبحث عن اللَّه وعن أعماله، في ظلّ الضيقات والتجارب، بخاصّة عندما نصغي إلى الذين يؤمنون بأنّ اللَّه موجود بجانبهم في التجارب، وبأنّه هو الضابط الكلّ.

فهل يمكن أن نتوصّل إلى جواب عن هذه الأسئلة، عن التجارب والضيقات التي يكابدها البشر، بنظرة إلى الكتاب المقدّس، وإلى تعاليم آبائنا القدّيسين وخبرتهم المترجمة للكتاب المقدّس؟

 

2- سفر أيّوب نموذجًا عن معاناة الإنسان مع الضيقات.

إذا بدأنا أوّلًا بالبحث في الكتاب المقدّس، فمن البدهيّ أن نذهب إلى استخلاص العبر من التجارب من سفر أيّوب في العهد القديم. أيّوب هذا الإنسان، الذي عرف بصبره في تجارب عديدة ومؤلمة.

سنقدّم موجزًا صغيرًا عن هذا السفر، ثمّ سنسعى إلى استخلاص حكمه على ضوء تعاليم العهد الجديد.  

 كان أيّوب رجلًا مستقيمًا، يتّقي اللَّه ويحيد عن الشرّ (أيّوب 1: 1). أنعم عليه اللَّه بخيرات كثيرة. يقول الكتاب إنّه كان أعظم كلّ بني المشرق. سمح اللَّه لإبليس بأن يجرّب أيّوب بغية اختبار محبّته للَّه. فأتى الرسول تلو الآخر ليخبروا أيّوب أنّ كلّ شيء أخذ منه؛ أولاده وأرزاقه دفعة واحدة. كان ردّ فعل أيّوب أن سجد، وقال: «عريانًا خرجت من بطن أمّي، وعريانًا أعود إلى هناك. الربّ أعطى والربّ أخذ، فليكن اسم الربّ مباركًا» (أيّوب 1: 20- 21).  ثمّ ضرب أيّوب بقرح رديء من باطن قدمه إلى هامته. طلبت امرأته عندئذ منه أن يكفر باللَّه، فأجابها: «تتكلّمين كلًاما كإحدى الجاهلات. الخير نقبل من عند اللَّه، والشرّ لا نقبل؟» (أيّوب 2: 10). هكذا بيّن أيّوب عن إيمانه الكامل، وصبره، ومحبّته للَّه.

وكان لأيّوب أصدقاء ثلاثة وهم أليفاز التيمانيّ وبلدد الشوحيّ وصوفر النعماتيّ. لمّا سمعوا بكلّ الشرور التي أصابته أتوا ليعزّوه. أخبرهم أيّوب أنّه يئس من وضعه وبدأ بالتذمّر من حالته أمامهم، سائلًا وطالبًا لماذا يعاني كلّ هذه الضيقات، علما أنّه بنظر نفسه إنسان بارّ لم يخطئ إلى اللَّه بشيء. حينها بدأ جدالًا مع أصدقائه دار على ثلاث دورات. كان أصدقاؤه الثلاثة يتّهمونه بأنّ كلّ ما يحدث معه من ويلات وضيقات، هو نتاج لخطايا اقترفها. ولو أنّه ليس بخاطئ، فلِمَ يعاقبه اللَّه هكذا؟ ودعموا آراءهم بحجج لاهوتيّة كانت سائدة في ذلك الحين، لكنّ أيّوب كان يردّ عليهم بحجج مضادّة، موضحًا أنّ هناك العديد من الظالمين والخاطئين الذين ينعمون بالأرزاق الكثيرة ولا يصيبهم مرض. وأصر أيّوب أمامهم على أنّه بارّ. 

بعد انتهاء هذا الجدال، يتكلّم السفر على شخص آخر اسمه أليهو. هذا كان أصغرهم، سنًّا، ولكنّه اعتبر نفسه الأكثر حكمةً بينهم. عامل أيّوب بقسوة، غضب عليه لاعتباره نفسه بارًّا، وكذلك بدا غضبه على الثلاثة الآخرين لأنّه اعتبر أنّهم لم يجدوا جوابًا شافيًا لأيّوب. لكنّ جواب أليهو كان أيضًا قريبًا لأصدقاء أيّوب الثلاثة.

لم يفهم أحد وجع أيّوب. كان كلام محاوريه فيه جهالة. يئس أيّوب من حالته طالبًا الموت. لكنّه لم يجدّف على الربّ، رغم قسوته في انتقاد اللَّه على ما يجري له. لهذا عرف بصبره.

 أخيرًا تكلم اللَّه من العاصفة، توجّه إلى أيّوب وأنّب معزّيه على ما نطقوا به (أيّوب 42: 7). فانحنى أيّوب أمام عظمة خالقه، وأوقف تذمّره وتحدّي حكمته، رغم أنّه كان بعد في معاناته، جاهلًا لماذا عانى الذي عاناه. ثمّ صدر عن أيّوب اعتراف مقرون بالتوبة. وأخيرًا بارك الربّ أيّوب معوّضًا له الخيرات، ومات شيخًا، شبعان الأيّام.

3- سفر أيّوب على ضوء العهد الجديد.

بعد أن رأينا معاناة أيّوب في تجاربه وفي تخلّي اللَّه عنه، وكلامه مع اللَّه الذي أفضى إلى اعتراف أيّوب وتوبته وانحنائه للَّه وخلاصه، أصبح من الممكن لنا أن نجد تفسيرًا مغايرًا لما جاء في السفر من أصدقائه، وحتّى من أيّوب نفسه. وذلك، باستعمال تعاليم العهد الجديد، أي بعد أن تجسّد الربّ يسوع، وقام من بين الأموات، محقّقًا كلّ نبوءات العهد القديم وأهدافه التحضيريّة للإنسانيّة، بغية استقبال مخلّصها.

لهذا الهدف، سوف نستعين بالكتاب المقدّس بعهديه وبتعاليم القدّيس يوسف الهدوئيّ عن التجارب والضيقات. القدّيس يوسف الهدوئيّ هو من كبار رهبان جبل آثوس، أعاد بحياته الروحيّة الصارمة بثّ تعاليم التقليد الشريف وترجم الإنجيل حياةً، مبيّنًا أنّ تقليد الكنيسة حيّ ومتحرّك، غير جامد، يتجدّد بحسب العصور ويقتني كلّ من امتهنه، لأيّ زمن انتمى، روح اللَّه القدّوس. رقد القدّيس السنة 1959 وأعلنت قداسته السنة 2020.

4- إرادة اللَّه قداسة الإنسان.

يتمحور عمل اللَّه في تاريخ البشريّة منذ لحظة الخلق حول خلاص الإنسان، ومماثلته للَّه عبر إرادته الشخصيّة، وحرّيّته التي منحه إيّاها اللَّه. اللَّه يريد للإنسان أن يتألّه، أي أن يشارك الإنسان في حياة اللَّه، وأن تصبح حياة اللَّه فيه. لذا نرى في سفر التكوين أنّ اللَّه خلق الإنسان على صورته ومثاله (تكوين 1: 26). أي أعطاه الحرّيّة والعقل بالصورة حتّى يستعملهما، ليماثل اللَّه بالفضائل. هكذا، الكتاب المقدّس يبرز بعهديه دور اللَّه الخلاصيّ في حياة الإنسان. في العهد القديم، يبرزه عبر تحضيره للبشريّة في الشريعة والأنبياء حتّى يعرفوا الخطيئة (رومية 3: 20، رومية 7: 7)، حتّى يدركوا أنّهم خطأة (رومية 2: 27- 29) وحتّى يستقبلوا إلههم متجسّدًا (أشعياء 7: 14 وأشعياء 9: 6 ...). وفي العهد الجديد، يبرز هذا الدور بكرازة الربّ يسوع، موته وقيامته، رافعًا البرقع عن العهد العتيق (2كورنثوس 3: 15- 16) وكاشفًا إنارة مجد المسيح (2كورنثوس 4: 4). أيضًا، وصف بولس الرسول جيّدًا هذا الدور عندما قال: «هذه هي إرادة اللَّه: قداستكم» (1تسالونيكي 4: 3). لذلك، نرى أنّ كلّ عمل اللَّه هو عمل محبّة فائق نحو الإنسان، هو إيثار(١). إرادته المحبّة هي قداستنا وليست آلامنا! لكنّ الإنسان أساء استعمال هذه المحبّة، ومال إلى مشيئته الذاتيّة بتلبية شهواته. هو يستخدم حرّيّته التي منحته إيّاها محبّة اللَّه، لإدخال شتّى أنواع الشرور إلى العالم بسماح واحترام اللَّه لحرّيّة الإنسان. هذا ما فعله الإنسان الأوّل في السقوط، أدخل بفعل إذعانه للشيطان الضيقات والمآسي والشرور والموت إلى عالمه. فغدت له مقيتة ومقرفة، وغدت أداةً للموت. هنا يتدخّل القدّيس يوسف الهدوئيّ ويشرح ماهيّة هذه الشرور.

5- القدّيس يوسف الهدوئيّ عن التجارب والشرور.

يقول القدّيس: «ليس أصل الضيقات في الخليقة منذ البدء، بل هي نتائج تترافق مع حالتنا الساقطة. تنشأ من الخطيئة، لذلك تلقاها مقرفةً، منفرةً للحياة، تتسبّب بالفساد والموت. لكنّ الربّ يسوع المسيح، تصدّى لهذا التهديد على حياتنا، والمؤامرة على طبيعتنا وجعلها لمنفعتنا. فلمّا بطل الموت سادت الحياة. تحوّلت مكنونات الموت وأدواته إلى خدمة الحياة. إنّ حياة ربّنا وتعليمه، وحتّى استشهاد صليبه، جعلت هذه الضيقات ومجمل أدوات الموت تتحوّل إلى وسائل وطرائق للخلاص»(٢).

إذًا، بحسب تعليم القدّيس يوسف الهدوئيّ، نرى أنّ اللَّه ليس هو مصدر التجارب والضيقات. بل هي نتيجة لسقوط الإنسان، أي نتيجة لطرد الإنسان للَّه من حياته، وعبادته أهواءه. لكنّ الدور الخلاصيّ الذي يقوم به اللَّه تجاه الإنسان، خلال كلّ تاريخ البشريّة والمعبّر عنه بأسفار الكتاب المقدّس كلّها، من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا، حول نتائج السقوط المقترفة من الإنسان إلى صالح هذا الإنسان. بمعنى آخر، جعلها أداةً للخلاص بقيامته وصعوده بالجسد واتّحاده مع الآب. أصبح لها معنى جديد، معنى قياميّ خلاصيّ.

 ويضيف القدّيس يوسف: «من دون تجارب، لا تعرف النفوس الطاهرة، ولا تستبين الفضيلة، ولا يلاحظ الصبر. من دون تجارب، يستحيل على النفس أن تتعافى. التجارب هي النار المطهّرة التي تنقّي النفس وتجعلها تتلألأ». وبهذا نفهم أيضًا، أنّ اللَّه يمدّ يده معنا بمحبّته الفائقة في ضيقاتنا ويحوّل كلّ ما يعترضنا من موت، إلى حياة فيه (أي حياة في اللَّه). وهكذا، ينزل الربّ الإله إلى الإنسان حيث هو يتوجّع، وينهضه إلى حيث يريده اللَّه أن يكون. 

وبهذا المعنى، نفهم أنّ اللَّه لا يسمح بالضيقات، أو يرسلها حتّى يقضي على الإنسان، بل الإنسان هو الذي أوجدها. فبعيشه المسيح، أي عندما يؤمن به وبوصاياه، يحوّلها إلى أداة لتقدّمه الروحيّ، بعد أن كانت أداةً للموت. ومن هنا يقول القدّيس يوسف الهدوئيّ: «إنّ الصبر مطلوب. من دون صبر لا يقتني المرء الخبرة، ولا معرفة روحيّة، ولا يبلغ أيّ مقدار من المعرفة والكمال»(٣). وهذا بالضبط ما حدث مع أيّوب.

6- خاتمة.

 أخيرًا، وبعد كلّ ما جرى مع أيّوب، يستطيع هذا الإنسان الصابر على الضيقات في العهد القديم أن يقول مع القدّيس يوسف الهدوئيّ في العهد الجديد: «على من التمس النعمة من الربّ، فوق كلّ شيء، أن يحتمل التجارب والضيقات، لا فرق أنّى أتت، وإلّا فإن سخط، ولم يبد، في أثناء التجربة، صبرًا كافيًا، فإنّ النعمة تحتجب، ولا تكتمل فضيلته، ولا يستأهل أيّ هبة روحيّة»(٤). ومعهم، ندرك أيضًا ما جاء في رسالة يعقوب: «خذوا يا إخوتي مثالًا لاحتمال المشقّات والأناة: الأنبياء الذين تكلّموا باسم الربّ. ها نحن نطوّب الصابرين. قد سمعتم بصبر أيّوب ورأيتم عاقبة الربّ. لأنّ الربّ كثير الرحمة ورؤوف» (يعقوب5: 10- 11).

في النهاية، احتمال هذه المشقّات، نتائج السقوط، هو صليبٌ لنا. إن حملناه بمعونة ربّنا الذي هو محبّة (1يوحنّا 4: 8)، وسلّمنا أمرنا إليه، وإن علمنا أنّ نعمة اللَّه تكفينا وأنّ قوّتنا في الضعف تكمل(٥) (2كورنثوس 12: 9)، وإن تمثّلنا بصليب ربّنا يسوع، عندئذ نتنقّى ونتّحد بالربّ بنعمته الإلهيّة، فنجد خلاصنا، الذي هو إرادة اللَّه لنا.

Loading...
 

 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search