العدد الأوّل - سنة 2021

11 - دراسة كتابيّة - الحرب في الكتاب المقدّس - نقولا أبو مراد - العدد 1 سنة 2021

مقدّمة

في آخر الأيّام، عندما ينقضي تاريخ الناس، تنتفي الحرب. قال إشعياء هذا حين تحدّث عن تدفّق الشعوب نحو جبل الربّ، لتتعلّم من ساكنه، بعد ضلال، طرقه، وتسلك في سبله. حينئذٍ «يطبعون سيوفهم سككًا، ورماحهم مناجل، ولا ترفع أمّة على أمّة سيفًا، ولا يتعلّمون الحرب في ما بعد» (2: 4). قبل هذا تحدّث إشعياء عن مسيرة الناس في أيّامهم كمسيرة قتلة «ملآنةٍ أيديهم دمًا» (1: 15- 21)، وقد نقضوا «الحقّ والعدل» وباتوا «أشرارًا» (1: 16– 17) وظالمين (1: 23). ويقول هوشع في كلامه على «ذلك اليوم»: «أقطع لهم عهدًا مع حيوان الحقل وطيور السماء ودابّات الأرض، وأكسر القوس والسيف والحرب من الأرض، وأجعلهم يضطجعون آمنين» (2: 18). وكان النبيّ قد تحدّث عن الحرب سببًا لعقاب الربّ (1: 4– 5)، وذلك في قالب أدبيّ مجازيّ يغرف من مدلولات «الزرع» الذي أعطي رحمةً للناس، أمّا هم فحوّلوا الأرض من مساحات للزراعة إلى ميادين للحروب. يكسر اللَّه «القوس والسيف والحرب» في المكان الذي شاؤوا فيه أن يتحاربوا (1: 7). برحمة الربّ يتحوّل وادي «يزرعيل» («اللَّه يزرع») من ميدان احتراب إلى أرضٍ تنادي الشعوب لتأتي وتنعم بالسلام والطمأنينة اللذين من اللَّه (2: 23).

يسمّي النبيّان تلك الحالة «زنًى»، أي خيانة للأمانة التي كان من المفترض أن يحيوها منذ البدء، منذ اليوم الذي فيه خلق اللَّه الأرض ومن عليها ليحيوا ويتآلفوا، لا ليميت واحدهم الآخر. الإشارة إلى بداءة التكوين في كلام النبيّين دلالة على أنّهما لا يريان في امتداد تاريخ الناس سوى استمرار للاحتراب. ففي كلام إشعياء على الحراثة (السكك) والحصاد (المناجل)، وفي كلام هوشع على «الزرع» و«المطر» (2: 21– 23)، وذكره الحيوانات (2: 18)، إشارة إلى أنّ سقوط الحرب هو عودة إلى البداءة، إلى تسلّط الإنسان على الأرض والحيوان من دون عنف (تكوين 1: 29– 30). يعرف النبيّان أنّ الإنسان خالف هذا عندما شاء أن يجلس على كرسيّ القضاء، بدلًا من خالقه، ساعيًا إلى «معرفة الخير والشرّ» بمعزلٍ عن الوصيّة (تكوين 3: 1- 7). ثمّ قتل أخاه (تكوين 4: 1– 16)، واستكبر إلى أنّ ملأ الظلم الأرض (تكوين 6: 1– 6). غير أنّ العودة بالقارئ إلى لحظات التاريخ الأولى، غايتها ليس فقط أن يعي أنّ الحرب وتاريخ الناس متلازمان، بل أن يفهم أيضًا أنّ تاريخ البشر، ولئن كان بكامله تاريخ حروب، إلّا أنّ كلمة اللَّه تبقى سابقةً له ولاحقةً، ثابتةً من الأزل وإلى الأبد، ليغدو ما خطّه البشر في تعرّجات تواريخهم خروجًا عن هذه الكلمة، وما الحرب إلّا التعبير الأوضح عن هذا الخروج.

1- في الخلق

في تكوين 1– 11 نجد منحًى واضحًا ضدّ الاقتتال والحرب. بداءة هذا المنحى نجدها في الإصحاح الأوّل، في الفقرة الخاصّة بخلق الإنسان (1: 26– 28). كلام الكاتب على خلق اللَّه للإنسان «على صورته، كمثاله» (1: 26- 27) متّصلٌ، في موضعين متوازيين، بتسلّط الإنسان «على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى كلّ حيوان يدبّ على الأرض». ورغم التوازي بين آ26 وآ27- 28، نلاحظ اختلافًا بين الصيغة المستعملة في قرار اللَّه بصنع الإنسان (آ 26) وفي تنفيذ هذا القرار (آ 27). ويقوم هذا الاختلاف على اختزال عبارة «مثال» في الصيغة الثانية، وتكرار عبارة «صورة» للتأكيد على أنّ الإنسان خلق ليكون «صورةً» للَّه. ويوحي التوازي بين آ 26 وآ27– 28 بارتباط وثيق بين الخلق على صورة اللَّه وهذا التسلّط. بناءً على صوغ هذه الآيات، وعلى الروايات اللاحقة، يمكن القول إنّ تحقّق كون الإنسان صورةً للَّه، هو في «إخضاعه الأرض» و«تسلّطه على الحيوان».

في هذا الكلام، يستعمل الكاتب مفرداتٍ خاصّة بالملكيّة: الصورة، والمثال، وفعلَي «أخضع» و«تسلّط»، اللذين يستعملان مرارًا في أسفار أخرى ليفيدا سيطرة الملوك وسيادتهم. فالجمع بين فعلين يتضمّنان مفهوم القوّة واستعمالها في الحرب مع عبارتين تدلّان على العلاقة بين الملك والإله، مقصودٌ وله دلالاته على مستوى فهم الخطّ الروائيّ في الأسفار. يفيد الجمع بين هذه العبارات أنّ تحقّق كون الملك هو صورة الإله هو في فعل الحرب، واستعمال القوّة لكيما يبسط الملك سيطرته وحكمه. فالكاتب لا يكتفي هنا باستعمال «الصورة» و«المثال»، اللتين تشيران إلى الملك، ولكنّه يربط استعمالهما بتحقّق الملكيّة في الإخضاع والتسلّط بالحرب وبواسطة القوّة. غير أنّ الكاتب يعطي معنًى جديدًا لـ«التسلّط» و«الإخضاع»، يختلف عن المعنى المعروف في السياقات الملكيّة. ولاستشفاف هذا المعنى، لا بدّ من مواصلة قراءة الفقرة، في آ29- 30، حيث ينتفي قتل الإنسان للحيوان والحيوان للإنسان بداعي الأكل، فهم لا يأكلون إلّا البقول والثمار. فتسلّط الإنسان على الحيوان وإخضاعه يخلوان من العنف، بخلاف ما تعنيه العبارتان في السياق الملكيّ التاريخيّ، عبر هذا المدلول الجديد، يعبّر الكاتب عن موقف مناهض للملكيّة في مفهومها التاريخيّ ولتجلّيها في القوّة والحرب. في هذا، يتّخذ السلام بين الإنسان والحيوان مكانةً مهمّة.

ولكن، يبقى السؤال: ما الذي يعنيه إخضاع الحيوانات والتسلّط عليها، ولماذا تشديد الكاتب على العلاقة بين هذا وكون الإنسان مخلوقًا على صورة اللَّه؟ للإجابة، لا بدّ من العودة إلى ثقافات الشرق القديم ومكانة الحيوان فيها. لا مجال هنا للغوص في هذا تفصيلًا، غير أنّه يمكن القول إنّ الحيوان كان في الشرق القديم رمزًا للقوّة والبأس، واستعملت صور حيوانات مفترسة وجارحة، لتمثيل هذه القوّة، خصوصًا في تجلّيها الملكيّ والحربيّ. بالمعنى المطلق، نجد الإنسان يصوّر بواسطة الحيوانات ما يسعى إليه من قوّة وسلطان، ليصير الحيوان هو المبتغى، وإنّ السعي إلى التمثّل به يراه الإنسان سعيًا إلى سيطرته وسلطانه، وتجسيدًا لتوقه إلى قوّته. يرفض كاتب التكوين هذا، ويقول إنّ الإنسان لا يكون إنسانًا حين يصير صورةً لحيوان، بل هو صورة اللَّه متحقّقة في إخضاع الحيوان والتسلّط عليه. وإذا صحّ أنّ الحيوان هو ذاك الذي يسعى الإنسان إلى تحقيقه في ذاته عبر سعيه إلى القوّة بالحرب والقتل، فإنّ مفاد ما يقوله الكاتب هو أن يخضع الإنسان ذلك المسعى، تلك الحيوانيّة التي في ذاته، محوّلًا إيّاها إلى سلام ونظام وتناغم وحسن، على مثال خلق اللَّه. على الإنسان أن يقتحم العدائيّة في ذاته، وينتصر عليها، ويحوّلها إلى سلام. بهذا السلام، المتمثّل في اشتراك الإنسان والحيوان معًا في تناول ما أنبته اللَّه على الأرض طعامًا، بلا قتل ولا دم، تتحقّق ملكيّة الإنسان، ويصير أهلاً لأن يمثّل اللَّه في الحفاظ على حسن الخليقة.

2- آدم وسقوطه

ما أورده الكاتب في تكوين 1 إنّما هو المرتجى. ما هكذا واقع الحال. فقد اغتصب آدم المجبول من غبار الأرض عرش القضاء الإلهيّ. أذعن للحيوان. أطاع الحيّة، وهي من «حيوانات الأرض» (تكوين 3: 1)، والتي كان من المفترض أن يخضعها آدم، لا أن يخضع هو لها. أغرته بما روته عن اللَّه. فصدّق روايتها وما صدّق كلمة الإله الذي جبله. فحين لم يسمح له اللَّه بالأكل من شجرتي معرفة الخير والشرّ والحياة، ما أراد أن يمنعه عن معرفة أو عن حياة، بل أراد أن ينهيه عن السعي إلى معرفة خير أو شرّ وحياةٍ بعيدًا عن تلك التي من اللَّه، لئلّا يموت. أمّا الحيّة ففسّرت كلام اللَّه من منظور آخر: إنّ اللَّه أنانيّ، لا يريد الخير للإنسان، لا يريد له أن يحقّق ذاته ويبلغ غاية طموحه؛ يكذب عليه؛ لذا على الإنسان أن يكتشف حقيقة إلهه هذه، ويرى ما في كلامه من كذب وخداع، وأن يتحرّر من أنانيّته واستبداده، ويعمل ما هو الأفضل له. يطيع آدم كذب الحيّة. وبعد إطاعتها يكتشف أنّه عريان، وأنّه صار صورةً للحيّة، لا للَّه الذي خلقه. ويعبّر الكاتب عن التشابه بين الحيّة والإنسان في جناس لفظيّ بين عبارتي «محتال، ماكر» و«عريان» في العبريّة؛ فعبر التشابه بين عبارتي «عروم» (محتال) و«عروم» (عريان)، يلمح الكاتب إلى أنّ الإنسان أصبح على مثال «الحيّة». بعدما أكل الإنسان من الشجرة اكتشف «عريه»، أي أنّه صار على صورة الحيّة الماكرة (3: 7). خجل. ما أراد أن يراه اللَّه وقد استحال صورةً لحيوان. حاول أن يخفي مظهره. لكنّه فشل. رأى اللَّه. عرف أنّ آدم أسقط الدعوة الأولى.

وحين حاول الإنسان أن يخفي عن اللَّه أنّه صار على صورة «حيوان البرّيّة»، اتّخذ من أشجار الحقل ملابس له، تلك الأشجار التي كان اللَّه أمره بأن يأكل منها. بهذا ظنّ الإنسان أنّه يوهم اللَّه بأنّه ما زال على ما أمره به في شأن العلاقة بينه وبين الحيوان. غير أنّ اللَّه الذي رأى وعرف، خاط له أقمصة من جلد (3: 21)، والجلد يأتي من حيوان مقتول. تفترض الأقمصة أنّ حيوانًا قد قتل. وعليه، أن يلبس اللَّه الإنسان جلد حيوانٍ مقتول يعني أنّه أراد أن يظهر الإنسان بمظهرٍ يدلّ على أنّ الحيوان الذي سعى الإنسان إلى التمثّل به، قد قضى عليه اللَّه، وها هو يلبس جلده علامةً دائمة على ما لم يكن مفترضًا أن يفعله. يعني هذا أنّ ما يسعى الإنسان إلى تحقيقه في حياته من قوّة بالقتل والحرب، قد سبق اللَّه فأدانه وحكم عليه بالزوال. هذه دينونة اللَّه للحيوانيّة التي يسعى إليها الناس وتتملّكهم، والتي يعبّر عنها الكاتب في رواية قايين، حيث نصف البشريّة يقتل نصفها الآخر، وكان بإمكانه ألّا يفعل هذا لو أطاع كلمة الله، لكنّه أطاع الحيوان المتربّص به (4: 7)، مخضعًا نفسه له.

Loading...
 

 

الأعداد

© حقوق الطبع والنشر 2024 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search