دَعَوتُكَ بِاسْمِكَ، أَنت لي
باتي حدّاد
مجلة النور العدد الرابع – 2024
«دَعَوْتُكَ بِاسْمِكَ. أَنْتَ لِي» (إشعياء 43: 1). في كلّ مرَّة أقرؤها، تلمس هذه الآيةُ، دواخلَ نفسي، لِما لها من خصوصيَّةٍ في الدّعوة وَفرادةٍ في استدعاء إنسانٍ مُعيَّنٍ وتكليفه بأمرٍ ما. هذه الفرادةُ تَظهرُ هنا بالدّعوةِ الاسميَّة، «دعوتُكَ باسمك»، أي وجَّهتُ إليكَ، أنت يا «فلان» بالتّحديد، هذه الدّعوة. دعوةُ اللَّه للإنسانِ حتَّى يكون له، وله وحده، تتجلَّى في تحقيق إرادته كما أوضَحها بولس الرّسول في رسالته إلى أهل تسالونيكي «هذه هي إرادةُ اللَّه: قداستكم» (1تسالونيكي 4: 3). وما القداسة، هذه الكلمة المشتقَّة من كلمة قدوش في اللّغة السّريانيَّة، إلَّا مرادفة لكلمة تكريس. وفي اللّغة العربيَّة، فعل كرَّسَ يعني خصَّصَ نفسَه لشخصٍ أو شيءٍ ما؛ وقفَ نفسَه لخدمةٍ معـيَّنة؛ فرزَ نفسَه عن عامّة الأشخاص والأشياء، أو تنازلَ عن حقوقٍ معيّنة، أو تخلَّى عمَّا يقومُ به كلّ الناس لِـ«يُكَرِّسَ» نفسه لأمر خاصّ. بالتَّالي، فإنَّ إرادةَ الله تكمُن في أنْ نَكون مكرَّسِين له، مفروزين للحياة فيه ومعه. لِذا، وَعينا، كجماعةٍ مؤمنة، أنَّ التَّكريس هو أنْ نَكون مُخصَّصِين بالكُلِّيَّة للرَّبّ، أي نحنُ له، في كلّ جوانب حياتنا، لأنَّ التّكريس لا يعني أنْ نكتفي بتخصيص جزءٍ من وقتنا للخدمة (تعليم، بشارة، عمل اجتماعيّ، إرشاد، كهنوت...)، بل أنْ يكون اللَّه مركز حياتنا ومحورها وأنْ لا نُوفِّر مجالًا لإعلان أنّنا للَّه فقط.
لكن، قد نظنُّ واهمين أنَّنا، بإرادتنا وحدها، نستطيعُ أنْ نُكَرِّس أنفسَنا للرَّبّ. لا نَفتَخِرَنَّ كثيرًا، إذ لا فَضلَ لِعبدٍ في أنَّه سَمِعَ نداءَ سيّده كما أصغى إليه الرّسول المصطفى فقال: «ولكنَّ اللَّه بنعمته اختارني وأنا في بطن أمّي فدعاني إلى خدمته» (غلاطية 1: 15). ها إنَّ الرّبَّ، من أجل خلاصِنا، قد دعانا أوَّلًا لأنَّه أحبَّنا أوّلًا، وإنْ سَمِعنا نداءَه وتفاعَلنا معه فما هذا إلّا رحمةٌ منه ورأفةٌ بنا. فالتَّكريس هو، أوَّلًا، دعوةٌ مِن اللَّه إلينا، لِكي نَخلُصَ، وبعد ذلك، سماعٌ وإسلامٌ مِنّا. لقد دَعَانا لِنَكونَ له وَلَهُ وَحدَه، «لأنَّي أنا الرَّبّ إلهك إلهٌ غيورٌ» (خروج 20: 5)، إذ كَما يطلُبُ العروسُ من عروسه الوحدانيَّةَ في الحبِّ كذلك الرَّبّ. وإنْ أدركنا أنَّ علاقتنا بالرّبّ ما هي إلَّا تردادٌ لِما ذُكِر في سفر نشيد الأنشاد (6: 3): «أنا لحبيبي وحبيبي لي»، لا بدَّ لنا مِن أنْ نُسلِم ذواتنا بالكلِّيَّة للحبيب، لأنّ هذا هو حال العشق. فتكريسُ ذواتنا لإلهنا هو قولة عشقٍ غير محكيٍّ بكلماتٍ ولا بتعابيرَ، إنَّما هو تمتمات وَجدٍ تتداخل مع كلِّ نَفَسٍ يصعَد وينزل في الصّدور ومع كلِّ فكرةٍ تغزل في العقولِ قصصًا وأخبارًا ومع كلّ نبضةٍ تخفق فيها القلوب حُبًّا وبذلًا.
منذ نزولنا في جرن المعموديّة وخَتْمِنَا بالميرون المقدَّس، يدعونا اللَّه إلى أن نلبس المسيح، فلا نَعود قادرين أن نقول إنَّ المسيح لا يخصُّنا في هذه النّاحيّة أو في تلك من حياتنا، بل نصبح للَّه فقط. لذلك، لا حياةَ حقَّة للمسيحيّ غير الحياة في المسيح. هذا التّكريسُ يتطلَّبُ من كلِّ مُعمَّدٍ أن يَطلُب نعمةَ اللَّه وقوَّته حتَّى يتَخطَّى ضعفاته وَيسهر على نفسِه، أوَّلًا، لِيعرف مدى استقامةِ حياته في المسيح، ممّا يستدعي أنْ ينطلِقَ بمحبَّةٍ نحو الآخرين وبمسؤوليَّةٍ تُجاهَهم حتَّى يُلبِّي مشيئَةَ مَن دعاهُ في البدءِ لنقل البشارةِ إلى العالم. أن تكون للَّه، أي مُكرّسًا له، هذا يعني أنْ تحيا الكهنوت الملوكيّ، هذا المشروعَ الّذي يشتركُ فيه أعضاءُ الكنيسة، إكليريكيّين كانوا أم علمانيّين.
الكاهنُ الملوكيُّ هو من يُعيد الخليقةَ السّاقطة إلى وضعها الفردوسيّ الأوّل، مُبتدئًا بشخصه، ويُقدّمها لله، فتكون هذه التّقدمة شكرًا للَّه، «الّتي لك ممّا لكَ نُقدّمها لك على كلّ شيء ومن جهة كلّ شيء». وهذا ما يذكره الأب أنطونيوس إليفيزبولوس في كتابه زاد الأرثوكسيَّة: «المؤمنُ المسيحيُّ كاهنٌ بجسده وكامل وجوده. وهو مدعوٌّ إلى أنْ يُقدِّم ذاته وجميع أعماله ذبيحةً للَّه، ومعها الخليقة بأسرها الّتي سلَّطه الله عليها». يستجيب الكاهنُ الملوكيّ لِنداء الرَّبّ فيُوقِفُ حياته بتفاصيلها له، إن تزوّج أو إن لم يتزوّج، إن دخل شركةً رهبانيَّةً أم لا، إنْ انتُدِبَ كاهنًا وظائفيًّا من الجماعة أم لا.
كلّ عمل، وإنْ كان تكريسًا للرَّبِّ، إن لَم يَمتدّ في اتّجاه الآخر لا قيمة له، إنَّما قد يُصنَّف ضمن الفرّيسيّة الجديدة. إنَّ هدف التّكريس هو أنْ تُفرَز أنتَ للرَّبّ، عبر موهبةٍ حباك بها أو عبر مهمَّةٍ أوكلَك بها، بِهدفِ خدمة الإخوة، أي من أجل تقديسهم، «لأَجْلِهِمْ أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا مُقَدَّسِينَ فِي الْحَقِّ» (يوحنّا 17: 19). لذلك، لا يغيبنَّ عن بالنا أنَّ التّكريس هو لخدمة وجه الرَّبّ في وجوه الإخوة. مِن هنا نستنتجُ أنَّ التَّكريسَ لا يُحصَر في وظيفة معيَّنة مهما سَمَت، كالكهنوت الوظائفيّ أو الخاصّ. التّكريس، إذًا، هو حالة تسليم الذّات بالكلّيَّة للرَّبّ من خلال إتمام عملٍ معيّن أو تفعيل موهبة. قد لا يعرِفُ المُؤمنُ، دومًا، من تلقاء نفسه، موهبته أو المجال الّذي عبره يُمكنه أنْ يَخدم مجدَ الله، لكنَّ الجماعةَ تكشفه له وتدفعه باتّجاهه وتسنده لإتمامه، فتكونُ هذه الأخيرة هي الحاضنة للمواهب ومُطلقتها في رحاب الكنيسة والعالم. وهنا أعرضُ شهادَةً هي لمنفعتنا في حياتنا الكنسيَّة: يوم شاركتُ في خدمة شرطونيَّة كاهنٍ، غَصَّت الكنيسةُ بشابَّاتٍ وشبابٍ من كلّ الرعايا والأبرشيَّات، قَدِموا لِيُعلنوا بصرخة «مستحقّ» عن شهادتهم لهذا الأب الّذي أرشدهم ورافقهم وكرَّسَ نفسه ووقته معهم ليَدلَّهم إلى حبيبه الوحيد. وعند انتهاء الخدمة، قال لي أحدهم، فرِحًا، إنَّه لم يستغرب كون هذا الأب قد تكرَّس في مجال الكهنوتِ اليومَ، لأنّه رآه وعرفه في حياته «كاهنًا» قبل أن يُصيَّر اليوم. شهادةٌ كهذه تحمل في طيَّاتها رسالة أنّ كلَّ تكريس يسبقه تكريس.