تأمّل
تأمّل في زمن الكورونا
كاتيا شمّاس الحاجّ عبيد
أربعة أشهر، لا بل أكثر، والأيّام تتوالى، متشابهة بعضها ببعض، عقيمة إلّا من التذمّر والقلق والخوف. لجأنا كلٌّ إلى داره وقد انفكّت عُروة الزمالة والصداقة والقرابة والجيرة. ورافق اجتياحَ الكورونا العالمَ كلّه تدهورٌ اقتصاديّ في بلادي جعل الأرجل ترتجف والقلبَ ينقبض. تُرى ما الذي يحصل؟ تسعى إلى الخروج من النفق الذي أنت فيه، تتناول كتابًا لتقرأ عساك تجِدُ شافيةً أو، على الأقلّ، تجد ما تموّه به عن نفسِكَ. تقرأ ما يلي: «لو تعرفين عطيّة اللَّه...».
تستوقفك هذه الكلمات وكأنَّك تسمعها للمرّة الأولى. حتمًا لا. ليست هذه المرّة الأولى! لماذا، إذًا، كان لها وقعٌ أمضى في النفس؟ ما الذي يريده الربّ يسوع بهذه الكلمات؟ رُحت، عندئذٍ، أستعرض الفترة السابقة للكورونا عساني أفهم بعض الشيء.
قبل زمن الكورونا كان الإنسان، كُلُّ واحد منّا بلا استثناء، غارقًا في العمل، ساعيًا وراء المأكل والمشرب والواجبات العائليّة والاجتماعيّة، مهووسًا بالسياسة، يخطّط للمستقبل، قِبلتُه بلاد الاغتراب، يلهثُ راكضًا، لا اليومُ يكفيه ولا حتّى العمرُ كلّه: سعيٌ دؤوب للوصول إلى ما يبتغيه. فكيف له أن يلتقط النَفَسَ ويُلملم ذاته وهو لا يعرفُ الراحة والاستقرار ولا يهدأ له قلبٌ وبال؟
وحلّ الوباء. تربّع طاغيةً لا يُميّز بين فقير وغنيّ، بين جاهل ومتعلِّم، بين ضعيف وقويّ، بين متخلّف وسويّ العقل، بين مؤمن وجاحد. تساوى الجميع فليس من متكبِّر أو مترفِّع أو صاحب امتيازٍ أو نفوذ. والأفظع من هذا كلّه أنْ لا دواء يُستَطَبُّ به ولا أمل بالخلاص من الوباء في وقت قريب، لا بل خطر تجدّده أمر محتمل. لقد تعطّل كلّ شيء.
«لو تعرفين عطيّة اللَّه...» تتردّد هذه الكلمات وتُلقي بثقلها. كيف لنا أن نعرف عطيّة اللَّه ونحن محجورون، مقهورون، مرعوبون من فتكٍ ظالمٍ، معطّلون من كلّ مبادرة أو قدرة على التفكير؟ مُعظم الناس بقوا على سطحيّتهم المعتادة. يسكننا هاجس الغد من مال ندّخره ودواء ومؤونة نخبّئها لنفتدي بها الأيّام الشرّيرة. وتاليًا ليس بمقدورنا ولوج كُنه العبارة ونحن تحت وطأة هذه الجائحة التي استبدّت وتستبدّ. لا بل أكثر من ذلك، ظنَّ البعض أنّ الحجر المنزليّ فترة راحة من العمل، فترة نقاهة، فاستلذَّ التعطيل القسريّ. إنّه، بالفعل، ظرف استثنائيّ. قلّة حاولت الاستفادة منه بالزراعة، أو المطالعة، أو العمل اليدويّ، أو الصلاة أو تنمية المواهب. غدونا آلاتٍ تنام وتصحو، تأكل وتشرب، تتلقّى أخبار التلفاز من دون تمييز أو تحليلٍ، تلهو، على مرّ الوقت، رغم ضيق الزمان والمكان. مشهد أقرب ما يكون إلى سلوكٍ مادّيّ بحت لا يختلف كثيرًا عن سلوك البهائم. أغرقنا في «جسدانيّتنا» تلك التي نحن مدعوّون إلى افتدائها وخلاصها.
عُدتُ إلى رواية الخلق أقرأها: «وفرغَ اللَّه في اليوم السابع من عمله الذي عمل. فاستراح في اليوم السابع من جميع عمله الذي عمل. وبارك اللَّه اليوم السابع وقدّسه، لأنّه فيه استراح من جميع عمله...» (تكوين 2:1- 3)، فراودتني الفكرة التالية: إنّ الراحة فترة تأمّل، فترة مراجعة للذات وقراءة لنمط الحياة والعمل. لقد بارك اللَّه هذا اليوم. لم تكن الراحة بالنسبة إلى الخالق فترة استقالة واسترخاء. فقلتُ في نفسي: إذا اضطررنا للحجر المنزليّ أيحقّ لنا أن نستسلم لوطأة الوباء؟ لماذا لا نفكّر بشكل إيجابيّ لنتخطّى هذه الفترة فنرى في زمن الكورونا «يومًا سابعًا»، بمعنى أن نستخلص منه عِبرًا لحياتنا عَبر التأمّل والتفكير العميق؟ ألا يُعقل أن يكون ما آلت إليه البشريّة اليوم دعوةً غير مباشرة إلى التأمّل في ما نحن عليه وفرصةً لتصحيح مسارٍ انزلقنا فيه - أفرادًا وجماعات - فما عدنا نعرف «عطيّة اللَّه» لنا؟
فما هي عطايا اللَّه لنا؟
تستوقفني في هذه العجالة أمورٌ ثلاثة:
1- أولى عطايا اللَّه لنا هي الحياة
في رواية الخلق، وبعد أن عصى آدم وحوّاء الأمر الإلهيّ استترا عند سماع صوت الربّ الإله ماشيًا، فنادى اللَّه آدم قائلًا: «أين أنت؟» (تكوين 3: 9) ناداه اللَّه رغم معرفته أنّه عصى أمره. ناداه لأنّه أراد له الحياة، وأوكل إليه أمر الأرض كلّها ليعمل فيها (تكوين3 :23). مُخطّط اللَّه للإنسان أن يحيا ويعمل في الأرض التي منها أُخذ. صورةُ هذه الحياة ليست صورة قاتمة وكأنّ اللَّه ينتقم فيها من الإنسان. إنّها صورة ملؤها الحبُّ والحنان والرأفة والشركة الإلهيّة. عطيّةُ الحياة، كما تبلورت في العهد الجديد، هي حياة في المسيح. وهذه نعرفها من ثمارها: المحبّة، الفرح، السلام، اللطف (غلاطية5: 16- 26). هي حياة بحسب الروح. وتاليًا فإنّ قدرات الإنسان، إن فعلت، لا يمكنها إلاّ أن تُعمَّد بثمار الروح التي ذكرنا. لذلكَ وجب على الإنسان أن يحافظ على الحياة، حياته الشخصيّة وحياة الآخرين، وحياة سائر المخلوقات، وتاليًا الحياة على الأرض ككلّ. فكلّ علمٍ ومعرفة واكتشاف واختراع وغيرها، إن لم تهدف إلى خدمة الإنسان والمحافظة على كرامته البشريّة، لكونه مخلوقًا على صورة اللَّه ومثاله، وكذلك على سلامة الخليقة، إنّما تؤول جميعها إلى الخراب، لأنّها، بدورها، تحوّل الإنسان إلى مُختبرٍ وحقل بحثٍ واكتشاف ليس إلّا. فالحياة عطيّة إلهيّة نعيشها بحسب الروح، نسعى إلى الحفاظ عليها على المستوَيَين الشخصيّ والجماعيّ بآن، فلا يُستثنى من هذه المسؤوليّة أحدٌ. ولذا، كان علينا، في زمن الكورونا هذا، أن نجهد في الحفاظ على الحياة كعطيّة إلهيّة، بعيدًا عن المرض المستشري. وما الحَجْر المنزليّ، مع ما يستتبعه، إلّا وسيلةٌ وقائيّة. فلا يظنَّنَّ كائن أنّ في هذه الانكفاءة ضعفًا أو استسلامًا لقوًى ظلاميّة تتحكّم في عالم اليوم. جُلُّ ما في الأمرِ أنّ هناك واقعًا ونحن نتعامل معه بحكمة وتعقّل وصبرٍ ريثما تنجلي غمامة الوباء.
2- ثانية عطايا اللَّه لنا هي العقل
خلقَ اللَّه الإنسان عاقلًا. وبالعقل استطاع الإنسان اكتشاف الكون، وطوّر العلوم البيولوجيّة والفيزيائيّة والرياضيّات والتقنيّات على أنواعها. استطاع التحكّم في الكثير من العوامل الطبيعيّة. وإن أردنا تعداد الاكتشافات والاختراعات لا نصل إلى نهايتها، وقد كان آخرَها، أعظمَها وأهمَّها، من جهة، وأكثرَها خطورةً، من جهة أخرى، العلوم الجينيّة.
بيدَ أنّ الإنسان، عندما تعاظمَ شأنه، نسيَ، في بعض الأحيان، أنّ العقل مخلوق، وتاليًا محدود. وحتّى الساعة، هناك الكثير من الأسئلة التي تبقى من دون جواب لكون العقل عاجزًا عن الإجابة عنها. وهذا لا يعني أنّ الإنسان لن يستطيع التوصّل إلى معرفة أكثر عمقًا وتنوّعًا، ولكن يبقى أنّ العقل ليس إلهًا مطلق المعرفة. أقول هذا لعلمي بأنّ الناس منقسمون إلى فئتين: فئة تُؤلِّه العقل وأخرى تُقِرُّ بمحدوديّتِه. مقابل الفئة التي تؤلّه العقل، يُوجد من يُعطّل العقل ويُحيله على التقاعد، يُقصيه ولا يُقيم له وزنًا بحجّة الدفاع عن الإيمان، الإيمان باللَّه وأعماله في هذا الكون. موقفٌ كهذا نابعٌ من الخوف وعدم القدرة على مواكبة مستجدّات العلم واكتشافاته. فمن يرفض العقل ويُعطله إنّما يرفض، من حيث لا يدري، مَن خلقه اللَّه وزيّنَه بالقدرة على الإبداع والتمييز. وهنا لا يسعني إلاّ أن أسترجع ما تسنّى لي أن اقرأه على صفحات التواصل الاجتماعيّ من مواقف تكفيريّة في الحالتين، سواء منها مواقف من راح يهاجم سلوكًا تقويًّا هنا أو مواقف من راح يهاجم سلوكًا عقلانيًّا بحتًا هناك. ولستُ أنكر البتّة أصواتًا متعقّلة تحلَّت بالإيمان، كانت هي بلسمًا للكثيرين ممّن ضاق صدرهم بالترّهات الكثيرة. وأسأل نفسي: ألم يكن من الأصوب أن نرجع إلى تراث الكنيسة الوفير ونستلهم حياة العديد من القدّيسين لنتعلّم منهم كيف سلكوا في أزمنة الأوبئة وكيف لنا أن نستخلص العِبَرَ الكثيرة؟ كَثُرَت المزايدات وكثُرَ الكلام الذي به يُدين الإخوة بعضهم البعض. ليتنا نتعلّم من داود النبيّ حين تأمّل الكون المخلوق فصرخ: «باركي يا نفسي الربّ». عرف داود، بالعقل، أنّ وراء هذا الخلق إلهًا حيًّا قديرًا وعظيمًا. وعرف، بآنٍ معًا، أنّ عقله هذا محدود وتاليًا قاصرٌ عن سبر سرّ الخلق. لذلك أنهى المزمور منذهلًا: «ما أعظم أعمالك يا رب كلّها بحكمة صَنَعت».
شتّان، إذًا، ما بين تأليه العقل وتعطيله. ويبقى أنَّ المؤمن الحقّ هو من يعرف جيِّدًا أنّ للعقل مجاله الذي نحترم وقدراته التي لا يُستهانُ بها. فلنتعلَّم كيف نوازن بين فعل العقل وفعل الإيمان من دون تطرّف أو تكفير.
3- ثالثة عطايا اللَّه لنا هي التمييز
ما بين حياة بحسب الجسد أو حياة بحسب الروح (غلاطية 5)، ثمّ ما بين عقل مستنير أو عقل معطَّل ومستبدّ، منحنا اللَّه موهبة التمييز، فهي تدلّنا على حكمة اللَّه في الكون ومجرياته. ونحن مدعوّون إلى تفعيل هذه الموهبة بأشكال مختلفة. نذكر، في ما يلي، بعض الأمثلة عن تمييز افتقدناه في زمن الكورونا، ما أثار العديد من التساؤلات حول استقامة الرأي والسلوك.
التمييز بين العلم والاِنفعال. اجتاح الوباء العالم بأسره، وأقرَّ الأطبّاء والباحثون باستفحال المرض وأنّهم عاجزون- على الأقلّ حاليًّا- عن مكافحته. فلا يجوز أن نجرّب الربّ كأن نتحدّى الواقع ومعطيات العلم. فالأمراض التي تجتاحنا إنّما هي واقع نحياه وليس من البطولة التنكّر لوجودها أو التعامي عنها. حريٌّ بالمؤمن الحقّ أن يميّز جيّدًا بين العلم الذي يضع الحقائق الوضعيّة في نصابها والانفعال الذي يُطيحُ بكلّ شيء.
التمييز بين إرادة اللَّه والأهواء الشخصيّة أو حتّى الجماعيّة. فلا نعمل على إسقاطات من هنا وهناك، كأن ننسب إلى اللَّه سلوكًا ما أو عقابًا يُنزله بالإنسان، وهو من كلّ هذا براء. بيسوع المسيح عرفنا أنّ اللَّه رحيم، مُحبّ، يفتقد خائفيه من دون أن يدخلهم في التجارب، لأنّ هذه الأخيرة لا تأتي إلّا من الشيطان ولا يمكن أن يكون اللَّه مصدرًا لها.
التمييز بين الطاعة والعصيان. فاحترام القوانين والنظم البشريّة والتقيّد بها إنّما هو للمنفعة العامّة. فعلى سبيل المثال، وفي ما خصّ الأزمة الصحّيّة التي نعانيها، ويُعانيها العالم معنا في زمن كورونا، لا يحقّ لأحد، مهما علا شأنه، أن يستهتر بقرار الحجر الصحّيّ لما في هذا القرار من مصلحة إنسانيّة عامّة. فلنتعلّم، أوّلًا، كيف نطيع مدبّرينا على الأرض لنعرف تاليًا، كيف نطيع الربّ. ليس من فوضى خلاّقة وليس من طاعة عمياء.
التمييز، في حياة الكنيسة، بين الشورى والتفرّد. فالأُولى تحمي الإنسان من شهوة التسلّط والثاني يؤدّي إلى عمق الاستبداد. فعندما تعلن الجماعة أو السلطة الكنسيّة - وهذا بفعل المحبّة - موقفًا أو تدبيرًا معيّنًا، حريٌّ بنا أن نتقيّد به. إنّه غير لائق وعارٍ من المحبّة كلّ سلوك لا يُقيم وزنًا لتوجيهات الكنيسة. وقد ينتج هكذا سلوك، بالسّواء، من الشعب المؤمن أو من رعاته، فلا فرق.
التمييز، عند الكلام، بين ما هو للبناء وما هو للبلبلة. فوسائل التواصل الاجتماعيّ غدت بابل العصر، وهذا ما شهدناه ونشهده كلّ يوم في زمن الكورونا وعلى مختلف الأصعدة. فكم بالحريّ عندما تصبح أمور الكنيسة بمتناول الفقيه والجاهل، الرصين والثرثار، المنضبط كنسيًّا والمتفلّت... على حدّ سواء. ليتَ أنّ كلّ شخصٍ يعرف حدّه ويقف عنده متذكّرًا أنّ الكلام في غير محلّه وغير أوانه هو كلام يهدم الكنيسة- جسد المسيح.
خلاصة القول إنّ زمن الكورونا - كأيّ زمن آخر عانت فيه البشريّة صعوبات كثيرة - سمح لي بهذا التأمّل، وأردت أن أتقاسمه مع من يرى فيه منفعة. ليتنا جميعًا - وأنا أوّلًا - نعرف عطيّة اللَّه فنحافظ على حياتنا نقيّة بما يرضيه من دون تفريط أو استهتار، فلا نشوّه الصورة الإلهيّة التي فينا بحُكم أهوائنا وشهواتنا، ولا نعطّل العقل ولا نفقد موهبة التمييز. فلنسلك في الكنيسة بواقعيّة المحبّة والإيمان اللذين يساعداننا على النموّ بعيدًا عن فلسفات الفرّيسيّين، وَلنُقِم، بين وقت وآخر، في خضمّ معركة الحياة، فُسحات تأمّل لنعرف معنى حياتنا وغائيّتها، عسانا بذلك نستطيع تصحيح ما تشوّه فيها. هذه هي راحة «اليوم السابع» وبها نعرف «عطيّة اللَّه»، فيُغدقُ علينا من «مائه الحيّ» كما قال للسامريّة.n