الإيمان على دروب العصر
أمام الموت والظلام
أضواء من التقليد
د. جورج معلولي
يلاحقنا الموت من كلّ جهة. وتغزو حياتنا رياح باردة كالصقيع. فالمرض يخيف، والفقر قارص، والظلام يتفشّى من فوّهات الجحيم. ويبدو لنا أنّ الإنسان كائن مهاجر كالبدو ليس له مكان يسند إليه رأسه. وتغدو المدن الكبرى صحارى جافّة ويكتشف البعض أنّ الصحراء سكنت النفوس.
نذكر الموت في كلّ لحظة، في أشكال عديدة وتحت أثواب مختلفة. ليس هذا الذكر كلامًا بل كيانيًّا وجوديًّا. يصيب الإنسان اضطراب تهتزّ له العظام، ونختبر القلق العميق والمرارة الآتية من اكتشافنا لمواتيّة بشريّتنا وسرعة عطبها. تتكسرّ حياة الإنسان ككوب زجاج رقيق يتذرّى فتاته فيفنى. هل الطبيعة البشريّة مقيّدة ذليلة أمام الأخطاء المتراكمة، والرعب المتصاعد، والعنف المتفشّي في الأفراد وفي الهيكليّات الاجتماعيّة والاقتصاديّة؟ كلّ شيء زائل، ويجتاحنا هذا الزوال كزوبعة من فراغ. يبدو الموت الجسديّ قريبًا، ونتحسّس أنّ وراءه موت أعمق يبتلع قوى الحياة فينا ونحن أحياء.
في وسط الموت، نكتشف وجهًا أعمق من أعمق دركاته، وأقرب إلينا من حبل الوريد: وجه المسيح الغالب الموت. ويصبح ذكر الموت ذكرًا للَّه، الإله المتجسّد، المصلوب، الذي يذبح دائمًا على مذبح أوجاعنا، والذي يدفق حياته في عروقنا فصحًا أبديًّا. فالقلق يمكن أن يتحوّل ثقة، والمرارة إلى حلاوة وفي طرفة عين لا نعود نرى إلّا القيامة وإن ومضات. ونعمل وندعو كي تفيض الومضات. ترى نصوصنا الليتورجيّة الى الصليب مصوّرًا تصويرًا ظلّيًّا في العود الذي رماه موسى في المياه المرّة قديمًا، فأصبحت مياهًا حلوة صالحة للشرب أي ملائمة للحياة. هل يصبح ذكر الموت صليبًا يحوّل مياهنا المرّة؟ لقد بحث الخيميائيّون القدامى عن إكسير الحياة أو حجر الفلاسفة الذي يحوّل كلّ معدن إلى ذهب، ولم يجدوه. ألا يكون هذا البحث توق كلّ البشر إلى ما يحوّل العبث إلى معنى، ويأمر خواء الأرض بأن ينتظم؟ كيف يولد الكون الجديد في نفوسنا وفي أرضنا الممزّقة؟ من يلج سرّ التجسّد والصلب والقيامة- يقول القدّيس مكسيموس المعترف- يلج سرّ الوجود وكنهه.
استخدم آباؤنا القدماء ذكر الموت طريقًا لولوج كنه الحياة. هل كان هذا نسكًا تنزيهيًّا يعمّق فهم القلب ويشعل فيه القدرة الكامنة ليعيد كلّ شيء إلى ذهبه الأصيل؟ قال أحد آباء الصحراء: من جعل صورة الموت دائمًا أمام عينيه يغلب كلّ خوف. وقال يوحنّا السلّميّ: «يولّد ذكر الموت إقصاء الهموم وصلاة متواصلة ويقظة للذهن» (الدرجة السادسة من سلّم الفضائل). ويضيف: «يستحيل إمضاء يوم في الإيمان إن لم نعتبره آخر يوم من حياتنا». كيف يكون هذا وهو العالِم بأن تذكّر الموت هو مسبب أساس للذعر والغمّ وانعدام الثقة، أي اختلال الإيمان؟ كيف هذا والموت باق آخر عدو يبطل كما يقول بولس؟ أليس كلّ البشر يخطئون خوفًا من الموت بحسب الرسالة الى العبرانيّين؟
لا بدّ من ربط ذكر الموت بذكر اسم يسوع. وقد استنبط آباء الصحراء جملًا قصيرة مستلّة من الكلام الإلهيّ كأسهمٍ مسنونة يرمون بها ما يحاربهم من أفكار وأوهام وشرور. ونبتت صلاة يسوع على هذه الأرضيّة مثل حبّة الخردل شجرة حياة يعالج بها الإنسان نسيانه للَّه. فهل غير نسيان الحياة يتسرّب منه العدم إلى أرضنا؟ عبر ذكر يسوع غالب الموت بالموت، أعرف من خلّصني وممّا خلّصني. أخبرتني سيّدة مسنّة أنّها في شبابها فقدت إيمانها وسارت في رحلة التفتيش بضع سنين. وفي يوم من الأيّام وهي تقرأ كتابًا فلسفيًّا حول العبثيّة والكيان والعدم شعرت بثورة داخليّة قويّة خالطها الغثيان فرمت بالكتاب إلى الحائط ونادت السماء: إن كنت موجودًا أجبني عن صحّة ما قرأت! فتصوّر لها كأنّها في حلم يقظة أنّها في بئر كثيف الظلام ولا جدران حولها تتوكّأ عليها. فبادرها شخص غريب التقطها بحنان فائق كما تلتقط الهرّة ولدها من جلد عنقه، ورفعها ووضعها على فوّهة البئر. وقال لها: إن أردتِ، أنا الحرّيّة.
في جوف الجحيم، وقد تكسرت كلّ صور اللَّه المشوّهة، لا يبقى لنا- وقد اختبرنا الموت والعبثيّة- إلّا وجه يسوع الصديق الذي يلاقينا قائلًا: «إن أردتم، أنا الحياة». يغلق اسم يسوع شقوق الجحيم السامّة التي تتسرّب إلينا منها انبعاثات العدم، ويفتح الإنسان على ما يعلو الوعي البشريّ، إلى فضاء يسبح في نور المعموديّة التي بها تصفو رؤانا وأحلامنا فتزورها السماء.
يغدو ذكر الموت هكذا طريقًا إلى المعاينة. هو أوّل فكرة تقودنا بها محبّة اللَّه إلى الحياة لتمتلئ قلوبنا منها كما يقول إسحق السريانيّ، فترشدها إلى معاينة أبلغ من أن تقولها الكلمات. ينفطر القلب فلا يعود قلبًا حجريًّا بل قلبًا من لحم يكتب عليه اللَّه شريعة حبّه المبذول والمحيي.
عندما يعرف الإنسان نفسه قابلًا للموت، قد يقول: «فلنأكل ونشرب لأنّنا غدًا نموت». ولكن يمكنه أن يقول أيضًا: «كلّ لحظة قيّمة بحدّ ذاتها فلِمَ نهدرها بما يلهينا عن عمق الحياة؟ أليست الحياة أفضل من الطعام؟ والجسد أفضل من اللباس؟»، هذا سرّ اللحظة الذي كشفه لنا يسوع إذ أوضح لنا: أطلبوا أوّلًا ملكوت اللَّه وبرّه وكلّ شيء يزاد لكم؛ دعوا الغد يهتمّ بما لنفسه، يكفي اليوم شرّه. هذا اطمئنان طيور السماء إلى من يقيتها وزنابق الحقل إلى جمال من يخيط لها الجمال.
في رواية الإخوة كارامازوف (دستويفسكي) يتذكّر الشيخ زوسيما أخاه الذي فقده وهو طفل. بعد إصابته بمرض عضال، تبدّلت رؤية أخيه للحياة فصار يطلب المصالحة مع الجميع. كانت غرفته تطلّ على الحديقة المزروعة أشجارًا قديمة وقد تبرعمت وبدأت العصافير تأتي وتتجمع على أغصانها وتملأ زقزقتها الجوّ، وهو يقول لها: أيتها العصافير الفرحة، عصافير اللَّه، اغفري لي لأنّي خطئت أيضا تجاهك. وبدأ يقول لمحيطه: ما هي السنوات والأشهر؟ لماذا نعدّ الأيّام؟ يكفي الإنسان يوم واحد حتّى يعرف الفرح... أحبّائي لماذا نتشاجر ونمسك الضغينة على بعضنا البعض؟ بالحريّ لنذهب نتنزّه في الحديقة ... نضمّ بعضنا البعض ونبارك الحياة !.
قد تؤدّي هذه المواجهة مع الموت، في نور المسيح، إلى المصالحة مع البشر. بعد حربين عالميّتين نزفت فيهما البشريّة نزفًا غزيرًا، اختبر القدّيس صفروني (ساخاروف) في نسكه الوحدة مع البشر أجمعين جذرًا كيانيًّا للوصيّة الثانية: «أحبب قريبك كنفسك. لقد أُعطي لي أن أعي هذه الوصيّة بشكل شجرة كونيّة ضخمة وجذرها آدم. وأنا لست سوى ورقة على أحد أغصان هذه الشجرة، لكنّ هذه الشجرة ليست غريبة عنّي فهي قاعدتي وأساسي، وأنا أنتمي إليها. الصلاة لأجل الكون كلّه هي الصلاة من أجل الشجرة بكلّيّتها، بملياريّة أوراقها». ويشرح في موضع آخر: «كثيرًا ما يرد في الكتاب المقدّس أنّ المسيح مات لأجل العالم أجمع، لأجل خطايا العالم كلّه. فلحظة نحدّ شخص المسيح وننزله إلى مستوى الجنسيّات، نفقد كلّ شيء ونسقط في الظلمات إذ ينفتح الطريق أمام الكره بين الأمم والعداوة بين الفئات الاجتماعيّة... المسيح هو الإله المطلق. لم يُصلب للمؤمنين فقط ولكن للكلّ أيضًا، مع آدم وإلى آخر إنسان يولد من امرأة. أن نتبع المسيح معناه أن نتألّم من أجل الإنسانيّة برمّتها حتّى تشفى وتخلص وما عدا ذلك فهو لغو... أن نحبّ قريبنا كنفسنا، وأن نحيا بحسب وصايا المسيح، هذا يقودنا إلى حديقة الجسثمانيّة حيث صلّى المسيح للكون أجمع».
ويتّسع القلب إذ تفيض فيه محبّة اللَّه نفسه أي حياته نفسها. ما هو هذا القلب الرؤوف؟ يجيب إسحق السريانيّ: هو القلب الملتهب من أجل خلاص الخليقة كلّها، البشر، الطيور، الحيوانات، الشياطين، وكلّ مخلوق، من أجل خلاصهم، تنهمر من عينيه دموع غزيرة. بسبب قوّة الرحمة القابضة على قلبه، يتّضع قلبه فلا يتحمّل أن يسمع أو أن يرى أيّ أذيّة أو ضيق لأيّ مخلوق. لهذا، يقدّم صلاة دامعة حتّى للوحوش غير العاقلة، لأعداء الحقّ، والذين يؤذونه، حتّى ينالوا الرحمة. هكذا يصلّي أيضًا للزواحف بسبب الشفقة الكبيرة التي يلتهب بها قلبه بلا قياس على شبه اللَّه.
أمام الموت، نرى الحمل الذبيح واقفًا وهو مذبوح، لنمدّ رأفته إلى العالم ونقوم. n