قضايا معاصرة
نظريّة المؤامرة (واستحالة المنطق
أسعد إلياس قطّان
إذا كنت ذا عقل نقديّ يحلّل الأمور ويفكّكها، فإنّ أيّ نظريّة من نظريّات المؤامرة ستبدو لك هزيلة. ويعود ذلك إلى أنّ نظريّة المؤامرة غالبًا ما تكون تبسيطيّةً بمعنى أنّها تختزل ديناميّة الحياة بعدد قليل من العوامل، وأحيانًا بعامل واحد فقط، فيما أنت تعرف أنّ الحياة معقّدة وأنّ العوامل التي تتحكّم في سلوك البشر كثيرة ولا يمكن اختزالها. يضاف إلى ذلك أنّ نظريّة المؤامرة تفترض أنّ حفنةً من البشر تستطيع أن تتحكّم في عشرات الملايين من الناس لا بالنسبة إلى ردود فعلهم الحاضرة فحسب، بل إلى كيفيّة سلوكهم في المستقبل أيضًا، وأنّ هؤلاء مجرّد دمى تنفّذ اليوم وغدًا وإلى أبد الآبدين بشكل أعمى مخطّطات أُعدَّت في غرف مغلقة ودهاليز سرّيّة، وهذا عين الهراء. ما نقوله لا يستتبع طبعًا أنّه ليس ثمّة هيكليّات وبنى عولميّة تضغط اليوم على البشر وتحاول قولبتهم وتنميط سلوكهم. ولكن هذا شيء، واعتبار الناس مجرّد أدوات في مؤامرة كونيّة جرى رسمها مسبقًا شيء آخر.
ولكن على قدر ما تجد نفسك حاذقًا في مساءلة نظريّة المؤامرة وفضح سذاجتها، على قدر ما يتبدّى لك أنّك صاحب الموقع الأضعف حيث تنخرط في نقاش مع مؤيّدي هذه النظريّة، لا لأنّك تفتقر إلى الحجج، بل لأنّك تكتشف شيئًا فشيئًا أنّ الحجج والمعطيات الموضوعيّة والمعلومات الدقيقة لا تعني لهم شيئًا. وتدرك تاليًا أنّ الموضوع، كلّ الموضوع، هو الافتقار إلى قاعدةٍ مشتركة يُبنى عليها النقاش. وإذا غابت هذه القاعدة، تحوّل الحوار الإنسانيّ، الذي ينبني على المنطق، إلى استحالة منطقيّة. وحين يصبح المنطق مستحيلاً، ينتفي التواصل، وينتفي الحوار.
أين تتأصّل هذه الظاهرة الغريبة؟ وكيف يتكسّر المنطق على أسوار التفاهة؟ سبب هذه المفارقة هو أنّ نظريّة المؤامرة غالبًا ما تكون مرآةً لخطاب يعتبر أصحابه، أو المؤمنون به، أنّه «تنزّل» من فوق على قدّيس أو وليّ أو شيخ في صومعته. نحن، إذًا، أمام خطاب غيبيّ لا يمكن مساءلته، لأنّ القائلين به يعتقدون أنّه كشف إلهيّ. وبفعل كونه كشفًا «ملهمًا» نازلاً من علِ، يصبح هذا الخطاب خطابًا ميتا-منطقيًّا، خطابًا لا يتخطّى المنطق فحسب، ولكنّه أيضًا غير قابل للنقد والمساءلة العقليّة. لقد شهدنا، مثلًا، قبل بضع سنوات حين توتّرت العلاقات السياسيّة بين تركيا وروسيا استعادةً لخطاب منسوب إلى الشيخ باييسيوس الآثوسيّ (وأشدّد على كلمة «منسوب» لأنّ الرجل لم يكتب شيئًا، بل كلّ ما «قاله» منقول عنه، وشتّان بين القول والنقل) يتلخّص في أنّ روسيا ستشنّ حربًا على تركيا وتسترجع القسطنطينيّة (المدينة تدعى اسطنبول منذ نشوء دولة تركيا الحديثة). ولكنّها لن تعرف ماذا ستصنع بهذه المدينة، لذا ستردّها إلى اليونان. ويستخدم هذا الخطاب، كما نُقل، عناصر منسوبةً بدورها إلى القدّيس قزما الإيتوليّ، الذي عاش في القرن الثامن عشر. لقد توافق آنذاك كلّ المحلّلين على أنّ إمكان انخراط روسيا «الأرثوذكسيّة» في حرب ضدّ تركيا «المسلمة»، أمر يخالف كلّ المعطيات السياسيّة والعسكريّة، وأنّ النزال المتبجّح بين الطرفين ليس إلّا تكتيكًا مدروسًا يهدف لدى كلّ منهما إلى تحسين مواقعه في الحرب السوريّة، وما يخالطها من حسابات جيوسياسيّة. ولكنّ أصحاب النظريّة الغيبيّة تشبّثوا بموقفهم، حتّى إنّ تبخّر آمالهم بتحرّر القسطنطينيّة من «نير» المسلمين بعد انقضاء أسابيع قليلة لم يحدوهم على مراجعة حساباتهم، فراحوا يبحثون عن نظريّة أخرى يروّجون لها.
أذكر أنّ هذه السيناريوهات وما يشبهها كانت رفيقتي الدائمة خلال السنتين اللتين قضيتهما في اليونان بدافع الدراسة في مطلع التسعينات. مَن منّا لا يذكر حرب الخليج، التي شنّها جورج بوش آنذاك على نظام صدّام حسين بعد احتلاله الكويت؟ أصحاب النظريّات الغيبيّة في ذلك الوقت كانوا يمنّون النفس بأن تتحوّل هذه الحرب إلى حرب غربيّة على تركيا تنتهي باسترداد اليونان للقسطنطينيّة. وكانت «حجّة» هؤلاء الأساسيّة استعادات ميتا-منطقيّةً لنبوءات قيل إنّ القدّيس قزما الإيتوليّ تفوّه بها. ولكنّ نظريّات المؤامرة ذات الطابع الغيبيّ في أوساط أرثوذكس النصف الثاني من القرن العشرين أقدم من حرب الخليج بالتأكيد. ولقد كان بعضهم يحملها معه إلى سورية ولبنان من بلاد الإغريق بالاستناد إلى مجموعة من «النبوءات» المنسوبة إلى الشيخ باييسيوس الآثوسيّ، وكان آنذاك بعد على قيد الحياة. قوام هذه النبوءات أنّ الاتّحاد الأوروبّيّ، الذي كان في طور تمتين تماسكه وتدارس خطوة توحيد عملته، قد أعدّ العدّة لحرب على الأرثوذكسيّة، وعلى اليونان والجبل المقدّس تحديدًا، وذلك عبر مسيح دجّال سيظهر قريبًا كي يستعبد شرائح واسعة من البشر ويختمهم بختم الوحش.
من البديهيّ القول إنّ خطابًا كهذا يرتكز كتابيًّا على تفسير مغلوط لبعض المقاطع من سفر الرؤيا، ويرتكز سيكولوجيًّا على أنّ اليونان من ضمن المجموعة الأوروبّيّة بلد ذو قيمة كبيرة بالنظر إلى الثقافة، ولكنّها بلد هامشيّ من حيث القوّة الاقتصاديّة والإبداع العلميّ والتكنولوجيّ. ومن ثمّ، فإنّ بعض الأوساط في بلاد الإغريق، ومعظمها، ويا للأسف، يدور في فلك الكنيسة، كان يسعى إلى ردم هذه الثغرة عبر اختراع خطاب يعيد تشكيل الهويّة اليونانيّة، وينسب إلى اليونان دورًا «لاهوتيًّا» يقارع دور الأمم الأوروبّيّة الأخرى. وهو يتلخّص في الدفاع عن الأرثوذكسيّة ضدّ مؤامرة منسوجة ضدّها تسعى إلى إسكاتها وكمّ أفواه «أنبيائها» الجدد. ومن النافل القول إنّ كلّ هذه السيناريوهات تندرج في سياق الإحباط الإغريقيّ منذ تحوّل المعطى اليونانيّ إلى معطًى هامشيّ في الثقافة الأوروبّيّة بعد سقوط القسطنطينيّة العام 1453 مرورًا بتهجير اليونانيّين من آسيا الصغرى والبنطس في مطلع القرن العشرين وصولاً إلى الاحتلال النازيّ لبلاد اليونان والاضطرابات السياسيّة فيها طوال النصف الثاني من القرن العشرين، وأبرزها دكتاتوريّة السبعينات. ولكن من يهتمّ لكلّ هذه المعطيات التاريخيّة؟ هاءنذا أحاول من جديد أن أردّ على نظريّة المؤامرة الغيبيّة ومنطلقاتها الميتا-منطقيّة بخطاب علميّ منطقيّ. وهذا الخطاب، كما أشرت أعلاه، محكوم عليه بالفشل أيًّا تكن حذاقته ودقّته، ولا حظّ له في القيام بأدنى تأثير في معادلة الحوار المستحيل مع أتباع السيناريوهات الغيبيّة.
كانت مثل هذه الأفكار تتقاذفني وأنا طالب في اليونان في مطلع التسعينات. وصدف أنّي التقيت ذات يوم، مع بعض الصحب، بامرأة طاعنة في السنّ دعتنا إلى بيتها بعد القدّاس الإلهيّ يوم الأحد لتناول القهوة والحلوى. لا أعرف كيف حملنا الحديث إلى الاتّحاد الأوروبّيّ ومشروع أوروبّا الموحّدة. فإذا بالمرأة تهتف: «يا ولدي، أوروبّا الموحّدة مشروع جيّد لأنّها ستأتينا بالسلام». إنّ مَن نظر إلى عيني المرأة الملتهبتين حين كانت تتفوّه بهذه الكلمات لعلّه رأى كلّ قهر الذات الجماعيّة اليونانيّة، كلّ التهجير من الأرض التي سكنها هذا الشعب العملاق مئاتٍ من السنين قبل مجيء المسيح، كلّ الأسى المنبثق من القرى التي أحرقها النازيّون في الحرب، كلّ القلاقل السياسيّة والاجتماعيّة، وكلّ الظلم الذي لحق بالطلبة حين تنادوا إلى الحرّيّة في كلّيّة الهندسة في أثينا، فدخل عليهم الدكتاتور الطاغية بعسكره وبساطيره وقمع ثورتهم المجيدة. بلى، أوروبّا مشروع جيّد لأنّ السلام مشروع جيّد. طوبى لصانعي السلام! بكلمات قليلة، كانت هذه المرأة التي تؤمّ الكنيسة كلّ أحد تفكّك على طريقتها نظريّات المؤامرة التي كان ينسجها أصوليّو الأرثوذكس آنذاك.
بعد بضعة أسابيع، رافقت بعض الصحب الآتين من معهد اللاهوت البلمنديّ في زيارة إلى الجبل المقدّس. لم يكن مخطّطًا أن نعرّج على قلاّية الشيخ باييسيوس. ولكنّنا فعلنا، وكانت فرحتنا كبيرةً أنّه كان هناك واستقبل مجموعتنا. كانت تلك المرّة الوحيدة التي أراه فيها. أذهلتني بساطة الرجل، وما كان عليه من ظرف في العبارة وعفويّة في الحركات. كانت شخصيّة المتوحّد الذي اقتنع ملايين الأرثوذكس بقداسته وهو بعد على قيد الحياة، في تناقض ما بعده تناقض مع التنميط السلوكيّ «الأرثوذكسيّ» الذي نجده اليوم عند كثر من الرهبان، وما يصاحبه في العادة من انقباض وتشنّج. أمام دعة المتوحّد باييسيوس وشفافيّته تفهم كيف أصبح هذا الرجل «قدّيسًا»، وتتوقّف عن طرح الأسئلة عن كلّ الخطاب الغيبيّ الذي نُسب إليه. ماذا يهمّك إذا كان هذا الخطاب صحيحًا أم لا؟ ما يصنع القدّيس هو النعمة الإلهيّة التي تنعكس في شفافيّته وتأتي إلينا كما يخترق النور البلّور، لا صدقيّة «النبوءات» التي نقلها عنه بعض الذين ادّعوا أنّهم تلاميذه.
النعمة تقذف بالبشر إلى دائرة النور ولا تحوّلهم إلى عرّافين معصومين. وأمام هذه الحقيقة الكبرى، تسقط الغيبيّات وكلّ نظريّات المؤامرة...n