تأمّل
من وَحي الآلام والصلب
غسان الحاجّ عبيد
إنّ بين صَلب ربّنا ومخلّصنا يسوع المسيح ودفنه وقيامته من بين الأموات، تلازمًا وثيقًا تُبرزه طقوسنا على نحو يَبهُت معه الفاصل الزمنيّ بين الآلام والقيامة، حتّى ليكاد أن يختفي. تعود بي الذاكرة، في هذا المقام، إلى كلام لاهوتيّ، صافٍ ورفيع، تفوّه به المطران جورج (خضر، الأرشمندريت آنذاك) في سياق عظة له بليغة ألقاها في كنيسة الميناء بطرابلس، في القدّاس الإلهيّ في سبت النور العام 1969، ونشرتها مجلّة النور تحت عنوان «المسيح الدفين»، قال: «... في لحظة واحدة لا يقع الحساب عليها كان المسيح في موت وحياة معًا... كان، في لحظة أو في ما هو دُون اللحظة، يتجاوز الصلب والقتل إلى حياة خفيّة مُقيمة فيه ظهرت للعيان عند فجر القيامة...» (النور، السنة 1969 العدد 3، ص ٨١: ٨٣). ومعلوم – وهنا أعود إلى الطقوس – أنّ طقوسنا تحوي في مضامينها ملء اللاهوت الكتابيّ بحيث يَسُوغ وصفها بأنّها الكتاب المقدّس مَصُوغًا طقوسًا وعبادات. ودُونكم بعض الأمثلة:
- في تذكار السجود للصليب المكرّم، الذي نقيمه في الرابع عشر من أيلول، نرتّل: «لصليبك يا سيّدنا نسجد، ولقيامتك المقدّسة نمجّد».
- في خدمة أناجيل الآلام التي نُقيمها مساء الخميس العظيم نرتّل:
«اليوم عُلّق على خشبة...» التي تنتهي بعبارة «نسجد لآلامك أيّها المسيح، فأرِنا قيامتك المجيدة».
- في رتبة جنّاز المسيح، مباشرةً بعد التقاريظ، نرتّل تبريكات القيامة، وفيها: «الملاك اللامع عند القبر تفوّه نحو حاملات الطيبِ قائلًا: لِمَ تمزجنَ الطيوب بالدموع بتَرَثّ يا تلميذاتٍ؟ أنظرنَ اللحد وافرحنَ لأنّ المخلّص قد قام من القبر»؛ وفيها أيضًا: «إنّ حاملات الطيب سَحَرًا جدًّا سارعنَ إلى قبرك نائحات. إلّا أنّ الملاك وقف بهنّ وقال لهنّ: زمان النَّوح قد كفّ وبَطل فلا تبكينَ، بل بَشِّرن الرسل بالقيامة». في مقام التجنيز نُنشد القيامة والفرحَ بها.
من هذه الأمثلة – وهي غَيضٌ من فيض – تستبين صحّة ما سبقت الإشارة إليه وهو أنّه، في طقوسنا وعباداتنا، كُلّما ذُكرت آلام الربّ ودفنه، ذُكرت معهما، وبالتلازم، قيامته. هذا التلازم ليس وليد الاِتّفاق أو الصدفة، لكنّ ناظمي التسابيح في الكنيسة – وبالأمانة الكاملة للكتاب الإلهيّ – رتّبوه بقصد تعليميّ واضح، وهو ما يهمّني في هذه العُجالة.
نتعلّم ممّا سبق أنّ الآلام – آلامنا نحن – ليست أصيلة فينا، أي ليست من طبيعتنا أصلًا، لكنّها طارئة. الأصيل فينا، بل الطبيعيّ، هو الصحّة والعافية، هو السلامة التامّة نفسًا وجسدًا. هذه السلامة هي الجوهر (Essence) والأَلَم عَرَض (Accident). وعنصر الألم دخيل على طبيعتنا البشريّة فهو، إذًا، هجين. ولكونه كذلك لا نستطيع، بحال من الأحوال، وتحت أيّ مسوِّغ، تطبيع العلاقة معه. سيبقى الألم هذا العنصر الغريب الذي علينا محاربته والتداوي منه من أَمكن التداوي. لذلك وقفت الكنيسة دومًا ضدّ التيّار المازوشيّ الذي ظهر في الغرب في الربع الأوّل من القرن الماضي، وعرفنا له دُعاةً يستلذّون الألم، بمعنى أنّهم يجدون لذّة ومتعة في إيلام أجسادهم ونفوسهم. هذا شجبته الكنيسة لأنّها رأت فيه بدعة غريبة كلّيًّا عن الفكر المسيحيّ. فلو كانت الآلام، بحدّ ذاتها، نافعة للإنسان، لما كنّا رأينا السيّد، في حياته على الأرض وسلوكه مع الناس وتصرّفه في ما بينهم، يشفي المرضى والسقماء من كلّ علّة «وكان يسير في الجليل كلّه، يعلّم في مجامعهم ويُعلن بشارة الملكوت، ويشفي الشعب من كلّ مرض وعلّة» (متّى ٤: ٢٣). وفي ما يختصّ به شخصيًّا، صحيح أنّه قَبِل الآلام وارتضاها، غير أنّه لم يقبلها عبثًا بل تحقيقًا لمشيئة أبيه، ومشيئةُ أبيه كانت خلاصَنا. هو لم يسعَ إليها لكنّه ارتضاها إذ لم يكن له بدٌّ من أن يتجرّع كأسها من أجل تتميم الرسالة التي تجسّد لتتميمها. والدليل على ذلك أنّه، لمّا بات في المواجهة الحاسمة مع كأس الآلام والموت، وفي ذروة ضعفه البشريّ، صلّى إلى أبيه السماويّ من أجل أن تعبر عنه هذه الكأس، وتولّاه الخوف حتّى صار عرقه يتصبّب منه كقطرات دم (لوقا ٢٢: ٤٤). إذًا، الفرق كبيرٌ بين أن يرتضي أحدُنا الألم إذا فُرض عليه لمجد الآب وبين أن يسعى إليه سعيًا مازوشيًّا عبثيًّا. وللمناسبة يجب أن نذكر أنّ صحّتنا ليست ملكًا لنا، وتاليًا لا يحقّ لنا أن نعبث بها. إنّها ملك الذي رَزَقنا إيّاها، وقد رَزَقنا إيّاها أمانة، ونحن عليها وكلاء مُؤتمَنون لنرعاها ونصونها. لذلك، نحن نتداوى من الألم إذا فَتك بنا ولا ندعه يستبدّ؛ إلّا إذا كان من الأدواء التي لا بُرءَ منها، إذ ذاك نحتمله بشكر وطول أناة ونحاول، قدر استطاعتنا، أن نجعل منها فرصة للتطهّر والتوبة. يحضرني، في هذا السياق، السبب الذي لأجله تطلب الكنيسة إلى اللَّه أن ينجّينا من الميتات الفجائيّة: إنّها تطلب ذلك لأنّ الموت الفجائيّ غالبًا ما يَحرم المؤمنَ فرصةَ التوبة.
أعود الآن على بدء. إنّ الآلام طارئة علينا لأنّها ملازمةٌ لطبيعتنا الساقطة، في حين أنّ طبيعتنا الأصليّة التي كنّا عليها قبل السقوط، أي كما خرجت من يد الباري، هي طبيعة فردوسيّة لا تعرف وَجعًا ولا حزنًا ولا تنهّدًا، وقد برأها الخالق لتنعم، معه وفي كنفه، ببعض من قدسيّته وألوهيّته. بَيدَ أنّ هذه الطبيعة سقطت بفعل العصيان، العصيان الآدميّ، وبنتيجة السقوط صارت معطوبة. وهذه المعطوبيّة هي التي جعلتها طبيعةً قابلةً الآلام وتاليًا الموت.
غير أنّ الآب السماويّ شاء، لعظيم رحمته، ألّا يتركنا غارقين في حمأة خطايانا ومسلوبين للموت، فافتقدنا من العُلى بابنه الوحيد يسوع المسيح. هذا تجسّد من أجلنا واتّخذ على عاتقه إنسانيّتنا التي فسُدَت بالخطيئة. أحبّنا حبًّا جنونيًّا فتطوّع للقصد الذي رسَمَه له أبوه السماويّ منذ الأزل، أي للفداء، إذ هو، في قصد أبيه، الحملُ الذبيح من قبل كون العالم. تلك كانت مشيئة أبيه، وهو أسلَسَ مشيئته لمشيئة أبيه «فوضع نفسه وأطاع حتّى الموت موتِ الصليب» (فيليبّي 8:2). إنّ سرّ الفداء استدعى من الفادي أن يحمل عنّا وِزرَ خطايانا مع كلّ مندرجاتها ويدفع الثمن، والثمن كان باهظًا جدًّا إذ كلّفه حياته. إذا رأيتَ إنسانًا يغرق في عُرض البحر يكون عليك أن ترمي بنفسك في عمق المياه وتمدّ إليه يدك لتنتشله. هذا تمامًا ما فعله السيّد معنا ليخلّصنا: نزل إلينا، إلى قعر لجّة خطايانا، وانتشلَنا منها حاملًا عنّا آثامنا مع كلّ مندرجاتها. ارتضى أن يصير «لعنةً من أجلنا» على حدّ قول بولس في الإصحاح الثالث من رسالته إلى أهل غلاطية، «لأنّه كُتب – والكلام دومًا لبولس في غلاطية 3 – ملعون كلّ من عُلّق على خشب». في هذا يتأمّل المطران جورج (خضر) فيناجي المصلوب قائلًا: «... يا أيّها السيّد المبارك، لقد تجمّعَت فيك كلّ خطايانا، من أوّل الزمان حتّى نهايته؛ فلمّا نظر الآب إليك مُجمَّعًا للخطايا رآك خطيئةً ورآك، بآن معًا، فداءً وقداسة...». هكذا سبق لأشعياء أن رآه في نبوءته فكتب يقول: «...لكنّ أحزاننا حملها، وأوجاعنا تحمّلها، ونحن حسبناه مُصابًا، مضروبًا من اللَّه ومُذلَّلا. جُرح لأجل معاصينا وسُحق لأجل آثامنا... والربّ وضع عليه إثم جميعنا. ظُلم، فتذلّل ولم يفتح فاه. كشاةٍ تُساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام الذين يجزّونها فلم يفتح فاه...» (أشعياء 53 :4- 7).
من وحي هذه النبوءة، وفي خطّها، كتب القدّيس نيقولا كباسيلاس في كتابه «الحياة في المسيح» يقول: «كيف غَلبَ المسيح... وفتح لنا الطريق والباب المُوصلَين إلى السماء؟ لم يخطف أسرى الخطيئة عُنوةً بل أعطى حياته بدلًا، وربط الشيطان، وملك على نفوس البشر بعد أن قضى على طغيان العدوّ... وعندما أشرقت الحقيقة... ظهرت العدالة من السماء كاملة وحقيقيّة. وهكذا تبرّرنا نحن... حُكم على البريء من الخطيئة بالموت على الصليب وهو الذي لم يفعل ظلامة. دِين من أجل خطايانا وأصبحنا نحن، بموته، أبرارًا وأصدقاءَ اللَّه...» (الحياة في المسيح لنيقولا كباسيلاس، تعريب البطريرك إلياس الرابع، تعاونيّة النور الأرثوذكسيّة للنشر والتوزيع، طبعة ثانية، 2002).
هذا سرّ الألم، هذا سرّ الصليب. الصليب الذي كان في العهد القديم أداة للّعنة (ملعونٌ كلّ من عُلّق على خشبة) بات، بالمسيح المصلوب عليه، خشبةَ الخلاص والباب المفتوح على الفردوس المُستعاد.n