الافتتاحيّة
في الوباء ووحدة الكنيسة
والحياة الجديدة
ن.أ.م.
«الحياة الجديدة ليست أن تغيّر مسلكًا لك في الوجود خارجيًّا؛
هي أن تغيّر كلّ فكرك بحيث يصبح مطابقًا لفكر اللَّه»
(المطران جورج (خضر))
لا يختلف اثنان في أنّ وباء الفيروس المستجدّ قَلَب المقاييس التي يرسو عليها عالمُ اليوم رأسًا على عقب. سيمرّ وقت قبل أن نعرف ما سيصمد من الأركان التي جُعِلَت لتحمل البنى الكونيّة في أمدائها الاجتماعيّة والثقافيّة والاقتصاديّة والسياسيّة وما سيرزح وينهار. غير أنّ الثابت في التاريخ أنّ الناس ينحون دومًا إلى أن يُخضعوا ذواتهم لمشتهيات تطلّعاتهم حتّى ولو كانت على حساب العدل والسلام والرحمة. قناعتي أنّ الوباء سيأفلُ عاجلًا أو آجلًا، إلّا أنّ السؤال الذي يطرح ذاته بعد هذا: هل ستأفلُ كبرياء الإنسان معه، ووهمُه بأنّه سيّد هذا الكون بلا منازع؟ سنترك الجواب عن هذا السؤال للأيّام...
غير أنّ المدهِش أنّه من بين الأمور التي رزحت، إذا صحّ التعبير، تحت ثقل هذا الوباء، الخطابُ الكنسيّ، وذلك على غير صعيد. مستغرب هذا الأمرُ، لا سيّما وأنّ المرجوّ من هذا الخطاب أن ينقل إلى خراف المسيح فكر اللَّه لا فكرَ العالم، وتاليًا، أن يحمل إلى الناس الذين تخبّطوا ويتخبّطون في الضياع والخوف والشكوك وغياب أيّ جواب عن تساؤلاتهم في المصير ومعنى الحياة والإيمان، أن يحمل إليهم كلمة الرجاء والصبر والتعزية، لا أن يرميَهم في مجهول الشائعات الجوفاء، ويتركهم أسرى هذه أو تلك من القراءات المشوَّهة والمشوِّهة للكتاب الإلهيّ.
محزن أن يكون تدخّل القيادات الكنسيّة قد اقتصر على إصدار تعليمات – تناقضت أحيانًا كثيرة – في كيفيّة حضور الخدم الليتورجيّة وإقامتها ومواعيد بثّها على وسائل التواصل، ولم تجتهد في أغلبيّتها لتقدّم للناس أجوبة شافية عن وضع يعيشونه جميعهم، للمرّة الأولى في حياتهم، اضطرّهم إلى ملازمة منازلهم، والانقطاع عن صلوات وخدم أحبّوها حتّى صميم وجودهم وعمق وجدانهم. إنّه لامتحان كبير لمدى التصاقنا بفكر اللَّه، وذلك بأنّ المقياس لهذا الالتزام لا يأتيك من هنيهات الراحة والاستقرار، بل من أزمنة الضيق كالزمان الذي نحن فيه اليوم، والذي قد يطول.
من جهة أخرى، يؤسفُ أن نكون قد انجررنا، أو مضينا طوعًا، إلى تجاذبات طائفيّة، أغلقت علينا في المستنقع الطائفيّ اللبنانيّ بوجهه الأبشع، ألا وهو تقاسم المراكز وتوزيع الأدوار، فيما الدعوة التي ورثناها عن كبار آبائنا هي إلى «الكفاح في سبيل إلغاء الطائفيّة» والابتعاد عن وباء الزبائنيّة والمحاصصة، وذلك تحقيقًا لفرادة تطبع إيماننا ومسيحيّتنا، وهي أن نسعى، بدلًا من التلهّي بخطابات سياسيّة تافهة، إلى الالتفات إلى معذّبي الأرض، وما هم ببعيدين عنّا، بل هم إلى جانبنا وفي وسطنا.
لماذا نريد أن نبقي على اللَّه أسيرًا لهويّة ممجوجة نريد بها أن ترسم خطوطًا بيننا وبين الآخرين، بدلًا من أن نخرج نحن إلى رحابة اللَّه وعالمه وناسه، ونعمل على إزالة هذه الخطوط الفاصلة وجدران العداوة بين الأفراد والجماعات والفئات التي تؤلّف هذا المجتمع الذي نحن فيه، أو أنّنا قد غدونا، كما يقول جورج خضر، «غبارًا مجتمعيًّا ككلّ غبار»، وتكدّسًا طائفيًّا على شاكلة أحزاب هذا العالم الفاني وتكتّلاته. متى نشتهي أن نصبح «ضياء تعسر مقاومته»؟
انطباعي ممّا ذكرت آنفًا أنّنا بتنا، للأسف، كنيسة تنسحب حين يُطلَب منها الحضور، وتحضر بقوّة حين يكون واجبًا عليها أن تتعالى كتعالي ربّها وتزهد بوساخات هذه الدنيا لتحوّلها إلى جمالات. وكأنّنا تركنا ما يدفعنا إليه إيماننا وتعليمنا من حركيّة باتّجاه الكلمة الأزليّ والأبديّ، وأن نحقّق دعوتنا في أن نكون ملحًا لهذه الأرض، لكي ننشغل ببنًى وهيكليّات زائلة، ونرتمي في «عالم الطوائف والتجسيد التاريخيّ الشقيّ» (جورج خضر).
ولا بدّ، في هذا السياق، من كلمة في الوحدة الكنسيّة، التي لا يمكن أن تكون على شكل وحدة أيّ بنيان من بنى هذا العالم. فالوحدة الحقيقيّة للكنيسة التي شاءها ربّنا حين صلّى «ليكونوا واحدًا كما نحن» (يوحنّا 17: 11)، ليست وحدة إداريّة أو مجمعيّة أو مؤسّساتيّة وحسب، ولا تقوم على أن تكون لنا مؤسّسة واحدة أو جامعة واحدة أو معهد لاهوت واحد أو إذاعة واحدة أو حتّى خطاب واحد... لا وحدة للكنيسة إلّا وحدتها مع رأسها الذي هو المسيح، وما من تعبير حقيقيّ لهذه الوحدة إلّا في سرّ الشكر، أي في التئام الجميع حول كلمة الحقّ التي بها كلّ شيء وما من شيء من دونها، ورَسْمُها الأسقف الواحد والكأس الواحد والجماعة الواحدة تجذب إليها عناصر الكون في هذه الوحدة وكلّ البشريّة لترفعها إلى ربّها تقدمةً له ومنه، وأن تخضع، في كلّ هذا، لكلمة المحبّة حتّى الشهادة الأقصى. هذه هي الوحدة الحقّ.
كيف نترجم هذه الوحدة على أساس فكر المسيح الذي هو فكر اللَّه، هذا هو السؤال الأكبر. في زمن الوباء لنا رجاء في أن ننحو باتّجاه هذه الوحدة إذا عرفنا كيف نحمل إلى الكون كلمة المحبّة، وأن ننتظر في ضيقنا وتعبنا وألمنا وسكنانا إلى ضعفات الناس في صبر كبير وأمانة عظيمة، أن ننتظر قدوم وجه المسيح إلينا من مشرق المشارق.n