حركة شعبيّة
الأب ميخائيل الدبس
عندما شاء مؤسّسو حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة أن يعرّفوا هذه «المنظّمة»، في المبدأ الأوّل من مبادئها، نعتوها «بالشعبيّة». لم يكن لاختيار هذا النعت وجه أدبيّ أو دعائيّ يُنشد من ورائه فعلٌ تسويقيّ بغية جذب أكبر عدد من المريدين كما هي حال، ربّما، منظّمات أخرى. بل كان لهذه العبارة بعدٌ لاهوتيّ إكليزيولوجيّ لكون هذه الحركة حركةً «دينيّة» كنسيّة. في اعتقادي أنّ هذا التعبير هو من أفضل التعابير الرائدة التي تضمّنتها مبادئ الحركة.
لن يفوتنا، هنا، أن نغلّب المعنى الكنسيّ لعبارتي «شعب وشعبيّ» على مثيله الاجتماعيّ - السياسيّ المختلف جذريًّا. لن نضيف في هذه العجالة شيئًا إلى ما حفل به أدبنا الكنسيّ وتحديدًا الحركيّ في هذا الخصوص.
أهمّيّة هذه الصفة التي أُعطيت للحركة أنّها أطلقت الصفة الكنسيّة خارج دائرة الإكليريكيّين إلى مدى شعب اللَّه الرحب من دون أن تنكرها على الأوّلين. حصل هذا في زمن ولادة الحركة زمنٍ سادت فيه وقبله وحتّى يومنا هذا مفاهيم حجّمت الكنيسة برجال الدين حتّى أصبحت كلمة «كنيسة» مرادفة لهم. ليست صدفة ألّا يكون بين المؤسّسين، أقلّه في سنوات التأسيس الأولى، إكليريكيّ واحد. هذه الظاهرة التأسيسيّة كانت تجسيدًا لقول الروح القدس لكنيسة أنطاكية إنّه لا يتكلّم، حصرًا، عبر الإكليريكيّين وتأكيدًا على أنّ نعمة هذا الروح تُعطى لكلّ شعب اللَّه المؤمن، ولكلّ واحد منه إن أصغى إليه، ولا يمكن حصرها بمن نال نعمة الكهنوت الخاصّ.
ليس في قولنا هذا إنكار لأهمّيّة الكهنوت الخاصّ وفرادته ودوره في تقديس شعب اللَّه، أو إنزال من شأنه ودوره في حياتنا الكنسيّة، بل هو إعادة اعتبار لدور الشعب المؤمن في كنيسته، وتأكيد على أنّ الانتماء الأوّل والأساس هو الانتماء، عبر المعموديّة والميرون، إلى شعب اللَّه، إلى الكنيسة التي افتداها اللَّه بدم ابنه. ليس من انتماء آخر يعلو هذا الانتماء أو يلغيه. فالمؤمن الذي أُعطيت له نعمة الكهنوت الخاصّ يبقى في عداد شعب اللَّه وليس له الحقّ في اعتبار ذاته شعبًا آخر، جماعة أخرى أسمى وأعلى شأنًا من بقيّة شعب اللَّه. عليه أن يدرك أنّ الكهنوت الخاصّ قد أُعطي له لكونه من شعب اللَّه ولخدمة هذا الشعب.
ما يعنينا في الذكرى الثامنة بعد السبعين أن نتذكّر أنّ حركتنا هي حركة الشعب الأرثوذكسيّ وليست حركة إكليريكيّة، أي أنّها انطلقت من صفوف الشعب وتتوجّه إليه. هذا لا يعكس عندنا حالة من الترفّع أو التنكّر تجاه الإكليروس لا بل أنّ تاريخنا وسلوكيّاتنا يؤكّدان العكس، إن من جهة الأعداد الكبيرة من الإكليروس التي خرجت من صفوفها، أو من جهة سلوكيّاتنا تجاههم. بل إنّنا كثيرًا ما نغالي في إظهار احترام لهم على حساب مبادئنا الأرثوذكسيّة والحركيّة: ألم تصرّ بعض مراكزنا أو فروعنا على أن يكون الرئيس فيها هو الإكليريكيّ حصرًا؟ ألم نسمع هنا وثمّة في أوساطنا الحركيّة أنّ لقاء الأخوة يكون أكثر أستقامة بوجود إكليريكيّ فيه؟ لم ترفض الحركة يومًا إكليريكيًّا في موقع رئاسة أو مسؤوليّة فيها، لكنّها ترفض حصريّتهما به أو ربط حضور الروح، حصرًا، بحضوره.
بغيتنا، اليوم، أن نؤكّد أنّنا وُجدنا لخدمة الكنيسة، لخدمة شعب اللَّه وليس لخدمة الإكليروس إلّا لكونه من شعب اللَّه وفي خدمته. حذار أن ننجرّ إلى خدمة الإكليروس لكونه صاحب سلطة وقرار أحاديّ. نحن نخدمه لأنّه يسبقنا في الخدمة والمحبّة والشورى. وفاؤنا لمبادئنا لا يقاس بمقدار تقرّبنا من الإكليروس، بل بمقدار تقرّبنا من شعبنا المؤمن الصادق. نحن لا ننشد تباعدًا عن رعاتنا أو نفورًا منهم لكنّنا نرفض المساومة والتملّق بغية بلوغ فتات من سلطة دهريّة نتوهّم، عبره، تقدّمًا في النهضة. دورنا في أنطاكية لا أن نسعى إلى سلطة أو نفوذ بل أن نظهر، قولًا وفعلًا الوجه الإنجيليّ للسلطة وألّا نتراجع عن دورنا هذا.
أكثر ما نخشاه في حركتنا أن نعكس صورة الجمود البشاريّ الذي تعيشه اليوم كنيستنا، أن نأخذ من الطاعة سترًا لتهاوننا، أن نمارس طقوسًا من دون عبادة في الروح والحقّ، نحفظها، نتمتمها، تكون لنا غطاءً لتقوى زائفة قوامها الجهل والانغلاق والفرديّة، أن نحوّل الكتاب المقدّس إلى نواميس وقوالب جاهزة تأسرنا في الحرف وتقصينا عن حرّيّة أبناء اللَّه.
استمرارنا، كحركة شعبيّة، هو في بلوغنا أكبر شريحة من شعبنا، في إصغائنا، أوّلًا، إليه عساه يعيدنا إلى بساطة الانطلاقة الأولى وعفويّتها وصدقها. لا نستخفّنّ بصدق الشعب ووضوح رؤيته وإن كان بعيدًا عن الطقوس. فلكلّ منهم مرارة خبرها رمته بعيدًا عن الجماعة الكنسيّة. لا تنتظروا إذنًا من هنا أو هناك. لم ينتظر المؤسّسون الطرس البطريركيّ ليقرأوا الكتاب مع الشعب وليغتذوا معه من الكأس المقدّسة. الطرس أتى لاحقًا لأنّ آباءنا في المجمع المقدّس قد تحسّسوا فعل الروح في الجماعة الحركيّة فكانوا طائعين له.
فعلنا مع شعبنا اليوم ربّما يختلف عن فعل المؤسّسين، لأنّ خيبة كبيرة أصابت هذا الشعب بعد تباشير نهضة لم تكن على قدر وعودنا وعلى قدر تطلّعاتنا وتطلّعاتهم. سئم شعبنا الأوامر والوصايا وحتّى التعليم لأنّه لم يرها أفعالًا. بداءة الأفعال إصغاء ومحبّة. لم يعتد شعبنا الكلام وإن تكلّم فلا نصغي وإن أصغينا لا نجسّد إصغاءنا أفعالًا. حطِّموا جدران أطرنا التنظيميّة وانطلقوا إلى من هم خارج صفوفكم. أيقظوا فيهم، عبر محبّتكم، محبّة اللَّه لهم ربّما يتحوّل ما نراه فيهم برودةً إلى حرارة تفوق فتورَنا فندرك أنّ الربّ سيتقيّؤنا إن بقينا على هذا الفتور. n