2019

12. علم نفس - الأشخاص ذوو الحاجات الخاصّة - بيتر بندلي – العدد الرابع سنة 2019

الأشخاص ذوو الحاجات الخاصّة

 

بيتر بندلي

 

 

 حرية الخليقة بشكل عامّ وحرّيّة الإنسان بشكل خاصّ أهمّ تعليم في الأرثوذكسيّة. وماهيّة الأشخاص ذوي الحاجات الخاصّة على علاقة مباشرة بهذه الحرّيّة. وحرّيّتهم على علاقة مباشرة بعواطفهم. فعواطف الإنسان أساس لوجوده كما أشار إلى ذلك أنطونيو دامازيو في أبحاثه في علم الخلايا العصبيّة الدماغيّة. وبما أنّ عواطف الأشخاص ذوي الحاجات الخاصّة مماثلة لعواطف الأشخاص الآخرين فلهم الحقوق عينها والحرّيّة ذاتها التي يتمتّع بها جميع البشر. لاسيّما أنّنا نطالب بحقوق الإنسان المعوّق وما زلنا لم نفهم فكرة الإعاقة وماهيّتها. في مجتمعنا اللبنانيّ ما زلنا نربط الإعاقة بالقدر وبالجزاء الالهيّ ونقول مثلًا: «حرام هذا إنسان آدمي، ليش اللَّه بعتله هالولد المعوّق؟» أو «اللَّه بلاه بهالولد المعتر!». هل تأتي الإعاقة نتيجة خطيئة، أي هي عقاب من اللَّه؟

قبل أن نتناول موضوع الإعاقة من محور الإيمان، ينبغي لنا أن نتأمّل الخطيئة في الحياة الروحيّة الأرثوذكسيّة. فتأثير الفكر اليهوديّ ما زال سائدًا إذ نرى اللَّه الغاضب والمنتقم والمجازي. حسب إيماننا الأرثوذكسيّ الخطيئة ليست عدم طاعة اللَّه كما كان يراها اليهود وما زالوا، إنّما هي ابتعاد عن اللَّه والتمحور حول الذات، كما علّمنا الدكتور كوستي بندلي في كتابه: «اللَّه والشرّ والمصير». وحين ذاك يتحوّل «البكاء وصريف الأسنان» إلى شعور بالغياب عن اللَّه والبعد عن المحبّة الإلهيّة والندم. هذا البكاء الذي يحدّثنا عنه الكتاب المقدّس ليس نتيجة جزاء اللَّه الذي يجازي الإنسان وينتقم منه، إنّما ينتج من ابتعاد الإنسان عن المحبّة الإلهيّة ورفضه لها.

عندما سئل الربّ يسوع (يوحنّا ٩:٣) «من أخطأ، أهذا أم أبواه»، كانت خلفيّة هذا السؤال المعتقد اليهوديّ الذي يرى الأمراض والإعاقة كجزاءٍ إلهيٍّ لربٍّ ينتقم من الإنسان عندما يخطئ أي عندما يرفض الطاعة. أمّا جواب يسوع فكان واضحًا إذ قال «لا هذا ولا أبواه». إنّما كانت الإصابة ليظهر عبرها مجد اللَّه. التفسير الخاطئ الذي يعلّمه البعض من اللاهوتيّين، الذين ما زالوا يتمحورون حول الغضب الإلهيّ اليهوديّ، يترجم الذي سمعناه بأنّ الربّ قال هذا ليشير إلى أعجوبة الشفاء التي سوف تحصل. ولماذا خلق أشخاصًا لهم حاجات خاصّة؟ كيف يظهر مجد اللَّه عبرهم؟   

هذا التفسير خاطئ. فإذا تأمّلنا هذا التفسير نرى أنّ هذا الرأي يعتبر حينذاك أنّ خليقة الإنسان لم تكن لذات الإنسان إنّما لمجد اللَّه. فالخليقة بذلك ما عادت ناتجة من محبّة الربّ إنّما من أنانيّة. اللَّه محبّة (١يوحنّا ٨:٣) والخليقة هي نتيجة محبّته. إذا تمحور الإيمان حول المحبّة نفهم الأرثوذكسيّة، أمّا إذا تمحور الإيمان حول الخوف من اللَّه نُلبس المسيحيّة ثوبًا يهوديًّا لا علاقة له بقوّة القيامة. بما أنّ الخليقة نتيجة محبّة وعلى صورة اللَّه ومثاله (تكوين ١: ٧) فهذه الخليقة غير كاملة ولها حرّيّتها. نتيجة لهذه الحرّيّة تأتي الأمراض والإعاقات. إذا تدخّل اللَّه لإزالة الخلل البشريّ يكون تصرّفه تدخّلًا وقمعًا لحرّيّة الإنسان (بندلي، الله والشرّ والمصير). ومن هذا المنطق تصبح عبارة: «ليظهر عبرها مجد اللَّه» إشارة إلى المجد الذي خَلَق الإنسان حرًّا ولا عبدًا (رومية ٨: ٢١).

بهذا النمط يصبح واضحًا أنّ للأشخاص ذوي الحاجات الخاصّة القيمة الإنسانيّة ذاتها التي للإنسان «العاديّ» أي غير المعوّق: هو خليقة ناتجة من محبّة اللَّه، هو على صورته أي له حرّيّته وقيمته وعواطفه.

أشار ابن خلدون في دراساته الاجتماعيّة إلى أنّ الإنسان حيوان اجتماعيّ، أي أنّ لا وجود له في العزلة. فللإنسان حاجات عديدة ومنها تعاطيه مع الآخرين. للمعوّقين هذه الحاجات أيضًا لكن بطريقة مميّزة وخاصّة. هم بالإضافة الى ذلك بحاجة إلى الأخرين كامتداد لأعضائهم، أي ليقوموا بما لا يتمكّنون هم منه. وهم كباقي الناس بحاجة إلى الآخر المحبّ الذي يراهم ويحترمهم.

على الإنسان ان يستعمل مواهبه حسب ما أعطي من اللَّه، أي من يتمكّن من المساعدة عليه أن يساعد من يحتاج إليها. أمّا مساعدة المعوّق فهي واجب إنسانيّ إذ له الحقّ في هذه المعونة. فهي ليست زكاة أو شفقة. فمن منّا يدخل بخدمة إنسان معوّق يقوم بواجب إنسانيّ واجتماعيّ. هذه الخدمة أكثر من تجسيدٍ لمحبّة اللَّه الذي أرادنا أن نرى «إخوتنا، هؤلاء الصغار».

لكن قبل الخدمة والمساعدة يأتي الاحترام. المساعدة الناتجة من تكبّر وإنتاج التبعيّة خالية من الاحترام، لأنّ المُساعَد يصبح حينذاك شيئًا ووسيلة لتمجيد الذات وما عادت محبّةً «للأخ الصغير». مساعدة صاحب الحاجة الخاصّة عليها أن تنتج من احترام إنسانيّته. إذا كانت شفقة فهي ليست احترامًا لأنّ الذي يشفق على المعوّق يرى نفسه فوق المُشفق عليه. تلك الفوقيّة ليست محبّة وليست احترامًا.

منذ بضع سنوات تبدّلت عبارة «المعوّقين» أو «المتخلّفين عقليًّا» بعبارة «الأشخاص ذوي الحاجات الخاصّة». وكان هدف هذا التحوّل إدخال احترام الإنسان المعوّق ووضع إنسانيّته تحت المجهر.

كخلاصة لا يمكن إلّا أن نكرّر أنّ الأشخاص ذوي الحاجات الخاصّة مثلهم مثل باقي الأشخاص، لهم حقوقهم الإنسانيّة وكرامتهم وعواطفهم والحقّ في حياة حرّة كريمة. هذه الحرّيّة ينالونها بواسطة خدمة الأشخاص الآخرين الذين يقومون بواجبهم إذا خدموا كامتداد لأعضاء معوّق. وفي الختام ألسنا جميعنا أصحاب حاجات خاصّة، فمن منّا هو كامل؟ ومن منّا لا يحتاج إلى الآخر في حياته؟n

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search