2019

8. ليتورجيا - رحلة الراهب في عصر التوبة والطهارة - تعريب الأب سيرافيم (داود) – العدد الرابع سنة 2019

رحلة الراهب

في عصر التوبة والطهارة

تعريب الأب سيرافيم داود

 

 

لقد وصلنا إلى ملاذ الصوم المقدّس. دعونا الآن نخصّص وقتًا خاصًّا لنراجع نفسنا مراجعة دقيقة ومفصّلة. فأبواب التوبة فتحت لنا الآن بشكل أوسع.

يا سكّان الدير المقدّس! التلاميذ الأقرب إلى المسيح! الأولاد الحقيقيّون للكنيسة، الذين يلتزمون بقلبها الروحيّ! لا يكفي لدعوتنا تخصيص وقت خاصّ للانتباه لأنفسنا فحسب، من أجل تطهير خطايانا الآثمة بالاعتراف والتوبة؛ بل سيكون من الأفضل لنا إذا كانت حياتنا كلّها تتكوّن من الاهتمام المتواصل والتوبة المستمرّة. إذا كانت حياتنا تتوافق مع اسمنا كرهبان. مثال النقاء الذي يجب أن نطمح إليه مثاليّ وكامل. هذا المثال هو ربّنا يسوع المسيح. ولكن كما قال الرسول «بل نظير القدّوس الذي دعاكم كونوا أنتم أيضًا قدّيسين في كلّ سيرة. لأنّه مكتوب كونوا قدّيسين لأنّي أنا قدّوس» (1بطرس 1: 15- 16). وفقًا للكمال اللامتناهي لهذا المثال من النقاء، فإنّ مجال التوبة والطهارة لا متناهٍ. حتّى لو كان المرء يمرّ عبر هذا المجال بكلّ ما يملك من حماسة واجتهاد، فإنّه لا يزال غير قادر على بلوغ درجة الكمال، حتّى لو عاش حياته في التوبة المستمرّة لألف سنة فهو لن يصل إلى الطهارة الكاملة. كان أعظم الرهبان يدركون في أوان وفاتهم أنّهم لم يتوبوا تمامًا فحسب، بل إنمّا لم يبدأوا بالتوبة أيضًا. ولكن بسبب إعاقاتنا المتزايدة والمتضاعفة، ففي اليوم الذي ستغادر فيه روحنا هذه الحياة الدنيويّة، ستكون بعيدةً كلّ البعد عن تلك القداسة التي غادر بها آباؤنا الأطهار، المختارون من اللَّه وسكّان الدير النسّاك، هم الآن سكّان السماء، لأنّهم التزموا التوبة بجدّيّة خلال إقامتهم المؤقّتة وهجرانهم الحياة الأرضيّة. وتاليًا، حتّى أولئك الذين يعيشون حياتهم بالانتباه المطلق، يراقبون روحهم باستمرار، يلاحظون جميع حركات الآثام المتنوّعة، يعالجون نفسهم باستمرار ضدّ هذا السمّ بالتوبة لا يصلون إلى الكمال الروحيّ التامّ. وماذا يقال بعد ذلك لهؤلاء الذين يعيشون بلا مبالاة، يشتّتون انتباههم باستمرار، ولا يفكّرون أبدًا أو يفكّرون نادرًا، كما لو أنّهم يتجاوزون ما يجب التفكير فيه حول خلاصهم؟

سأقول ما سبق أن قيل عنهم؛ سأنطق بالجملة التي كانت واضحةً بالفعل منذ البدء. سأقولها بدافع القلب، ولكن بدون أيّ خطأ، لأنني أكرّر كلمات الرسول، كلمات اللَّه. «ولكنّ التي هي بالحقيقة أرملة ووحيدة فقد ألقت رجاءها على اللَّه وهي تواظب الطلبات والصلوات ليلاً ونهارًا. وأمّا المتنعّمة فقد ماتت وهي حيّة» (1تيموثاوس 5: 5- 6) لا تعتقد أنّ هذه الكلمات موجّهة فقط إلى الأرامل بحسب الجسد! لا، إنّها تنطبق على كلّ واحد منّا، نحن الذين نبذنا العالم لخدمة المسيح. فالراهب هو أرملة بالفعل، يجب أن يموت العالم من أجلها. هل اعتبرت نفسك ميتًا عن هذا العالم وهذا العمر العبثيّ لكي تحيا في اللَّه والحياة الأبديّة؟ إبحث بعناية في الكتاب المقدّس، إبحث بعناية في نفسك، تحقّق من حالة روحك مقابلةً بالمنصوص عليها في الكتاب المقدّس، وأخبرني: هل أنت ميت حقًّا عن العالم؟ في أيّ حال، هل بدأت حالة النسك؟ هل شعرت بالحيويّة في اللَّه؟ هل ذهبت أفكارك ورغباتك لتعيش في العصر الآتي؟ فالذي يستطيع الإجابة عن هذه الأسئلة هو شخص نادر جدًّا. على الأرجح يجب على كلّ واحد منّا أن يدرك مدى عدالة تلك الجملة الرهيبة الملقاة على عاتقنا. هذه الجملة قاسية على آذان وقلوب محبّي الجسد في هذا العالم، لكن من الأفضل سماعها الآن، في حين أنّ رحلتنا الدنيويّة لا تزال مستمرّة وذلك قبل انتهاء عصر التوبة والطهارة. إذا جعلتك كلماتي تشعر بالخوف والحزن، إذًا مبارك هو ذلك الخوف «لأنّ الحزن الذي بحسب مشيئة اللَّه ينشئ توبةً لخلاص بلا ندامة» (2كورنثوس 7: 10). فهو يعمل فينا لبعض الوقت، ليقودنا إلى التخلّص من الحزن والضعف، والعذاب الرهيب الناجم عنهما، العذاب الذي لا يمكن التعبير عنه بالكلمات، الذي يتعذّرعلينا فهمه بعقلنا. ليحقّق كلّ واحد منّا في نفسه، ويختبر بنفسه كلماتي التي أتفوّه بها لخلاص النفس والروح.

الجنّة عُيّنت لنا. السماء والبركة الأبديّة في انتظارنا إذا كنّا سنعيش هنا بورع، ونحقّق نذورنا الممنوحة في المعموديّة، والتي تتكرّر في طريقتنا نحو الرهبنة، وتكتمل بنذور التجرّد والعفّة. لكننا لا نولي أيّ اهتمام لنعمتنا هذه، تمامًا كما أنّ الرجل النائم هو فاقد الحسّ بالنسبة إلى الذين يحيطون به وينتظرون منه أن يستيقظ على متعة هذه الحياة وملذّاتها. نحن لا نفكّر البتّة في البركات المستقبليّة التي لا توصف؛ أفكارنا هي دائمًا على الأرض، في المتعة الدنيويّة، والاهتمام الأرضيّ. ألسنا أمواتًًا بالروح، رغم أنّنا نتصوّر أنّنا على قيد الحياة بواسطة العقل الجسديّ، الذي يرى فقط بعيون الجسد.

أمّا الجحيم فعيّن لنا، النيران الأبديّة والدودة الدنيئة التي تأكلنا باستمرار وتمزّقنا، إذًا كنّا نعيش حياتنا الدنيويّة في الخطايا والملذّات الآثمة. لكنّنا نبحث عن هذه الملذّات، نركض خلفها؛ تتجسّد فيها رغباتنا وأفكارنا. نحن نعيش كما لو لم يكن هناك جحيم، كما لو كنّا خالدين ومقدّر لنا أن نعيش إلى الأبد على الأرض، كما لو كنّا قد حقّقنا بالفعل نعمةً لا نهائيّة. فتهديد كلمة اللَّه، وتحذيره لنا من العذاب الرهيب، الذي لا ينتهي يذهب عبثًا! نحن نرى موت إخوتنا، نشارك في دفنهم، لكنّ هذا لا يترك لدينا أيّ أثر، كما لو أنّ الموت يحدث للكثير من الناس الآخرين، ولا يطالنا نحن. نحن مثل الموتى ليس عندنا ذاكرة ولا إحساس بالموت، ولا تذكار ولا إحساس بالمستقبل. نحن موتى تمامًا. «أنا عارف أعمالك أنّ لك اسمًا أنّك حيّ وأنت ميت» (رؤيا 3: 1) هذه الآية هي شهادة على كلمة اللَّه الحقيقيّة ضدّ كلّ شخص جسديّ.

بالنسبة إلينا، نزل ابن اللَّه إلى الأرض وسحق موتنا بموته. أصبح بالنسبة إلينا الحياة والطريق إلى تلك الحياة. إنّه يطلب منّا أن نصلب جسدنا مع الأهواء والشهوات (1غلاطية 5: 24). إنّه لا يطلب ذلك لأنّه هو نفسه بحاجة إليه، بل لأنّنا نحتاج إليه– لأنّك فقط في جسد أمات الخطيئة، يمكن أن تكتشف مظاهر الحياة المليئة بالنعمة. إنّنا نسمع صوت الكلمات فقط، في حين أنّ النفس لا تفهم الكلمات ذاتها، كما لو أنّها تنطق بلغة أجنبيّة غير معروفة. هذا ليس من المستغرب. هذه هي النتيجة المباشرة لحالتنا الروحيّة. فمن مات في الجسد ليس قادرًا على الشعور الجسديّ. فإذا مجّدوه، وأعطوه ثروةً غير محدودة، أو جرّدوه من ملابسه وغطّوه بالإذلال، فلن يشعر بأيّ شيء، كذلك لا يمكن للشخص الذي مات في الروح أن يفهم الكلمات الروحيّة. لا يمكن أن يشعر بأيّ بركات روحيّة، إنّه يتذكّر الموت والعذاب الأبديّ، كما يعترف بفناء هذا العالم والعصر. إنّها معرفة واضحة وملموسة، لكنّه مسموم وميت بالخطيئة، وهذا يجعله غريبًا عن اللَّه والبركة ويصبح ضحيّة للجحيم، فحياة الجسد تأتي من وجود الروح القدس فيه.

هل بإمكاني أن أمجّد رحمة الربّ غير المحدودة، حبّه الذي لا يوصف للبشريّة؟ هل يمكنني، مع الرسل، أن أدعو طغمات الملائكة، جميع أجناس البشر، وأكثر من ذلك، جميع الحيوانات البرّيّة والمروّضة، طيور السماء، زواحف الأرض، أسماك كلّ مساحات البحر الكبيرة، وكلّ الإبداع إلى الانضمام إلى هذا التمجيد والثناء؟ حتّى لو اتّحدت كلّ الخليقة بفم واحد، وصوت واحد، لا يمكنها تمجيد رحمة اللَّه التي تفوق كلّ الكلمات والإدراك. تعالوا، أيّها الإخوة، لنعبد ونجثُ عند أقدام هذه الرحمة. لقد تحمّلت طويلاً حتّى الآن آثامنا، ولا تزال تنتظر تحوّلنا، لا تزال تمدّ ذراعيها لاحتضاننا، داعيةً أولئك الذين يتجوّلون في الأماكن الموحشة ويسلكون بين أغصان الخطيئة. لا تزال تستقبل الخطأة التائبين، جاعلةً إيّاهم أبناء اللَّه وبناته. «إذ قيل اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسّوا قلوبكم كما في الإسخاط» (عبرانيّين 3: 15) «من له أذنان للسمع فليسمع» (متّى13؛ 9) لا تصمّوا آذانكم. استيقظ أيّها الغارق في النوم العميق من اللامبالاة والإهمال التامّ لخلاصك! قم من الأموات (أفسس 5: 14)، أنت أيّها المائت بعدم إدراكك وقسوتك في حياة الجسد والخطيئة! هل لي أن أرى فيك صحوة الحياة التي أيقظتك من النوم بواسطة الكلمة التي تبشّر بالتوبة! هل لي أن أسمع صوتك، تنهّدك، رثاءك، توبتك، ونظرًا إلى أنّك قضيت كلّ أيّام حياتك بدون جدوى، أعطاك الربّ مرّةً أخرى يومًا لخلاص نفسك. فاليوم الذي تقدّم فيه اعترافًا صادقًا أمام والدك الروحيّ قد يلقي عن عاتقك كامل ذنوبك.n

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search