2019

6. ليتورجيا - الإيمان الصعب: أضواء من پول إڤدوكيموڤ - د. جورج معلولي – العدد الرابع سنة 2019

الإيمان الصعب‫:

أضواء من بول أفدوكيموف

د. جورج معلولي

 

يحمل الإيمان في ذاته صعوبة لا تنفكّ عن لغز عظمته: «اللَّه في السماوات وأنت على الأرض» (سفر الجامعة 5: 2). هذه المسافة التي يعسر حملها طويلًا دفعت أشعياء إلى النداء: «ليتك تشقّ السماوات وتنزل» (أشعياء 63: 19). حتّى قوّة أناشيدنا الليتورجيّة لا تلغي إحساسًا سرّيًّا بالغياب يعسر البوح به.

كيف ننتقل من معرفة مجرّدة، نظريّة أو وعظيّة إلى لقاء شخصيّ، إلى شركة حيّة؟ كيف يمكن لحضور اللَّه أن يدخل حياة الإنسان؟ لماذا يجعل اللَّه الإيمان بهذه الصعوبة؟ يسأل المؤمن الذي تراوده الشكوك. لقد افتتحت القيامة اليوم الثامن، ورغم هذا يبدو أنّه لم يتغير شيء في العالم. دخل العالم الجديد إلى العالم القديم، ويبدو اليوم الثامن مستترًا في أيّام الأسبوع السبعة. عرف بطرس الرسول سخرية الشكّاكين القائلة: «أين هو موعد مجيئه؟ لأنّه من حين رقد الآباء كلّ شيءٍ باق هكذا من بدء الخليقة» (2 بطرس 3 : 4). هكذا طلب اليهود أيضًا إجابة لا لبس فيها: «أستحلفك باللَّه الحيّ أن تقول لنا: هل أنت المسيح ابن اللَّه؟» (متّى 26: 63). وطلب أحد التلاميذ إلى يسوع: «أرنا الآب وكفانا». طبعًا أدلّة من هذه النوع ستكون أكثر من كافية، لكنّ الأدلة تجرح الحقيقة فكان رفض الربّ واضحًا قاطعًا: «ما لهذا الجيل يطلب آية؟ الحق! أقول لكم لن يعطى هذا الجيل آية!» (مرقس 8 : 12).

جاء اللَّه إلى الناس حاجبًا ألوهته عن الأعين. وفي الآيات التي صنع يقول للمريض: اذهب ولا تخبر أحدًا. في تجسّد اللَّه نفسه أي في الكشف الأبهى يحجب نفسه بطريقة أعمق على حسب تأمّل بعض الآباء. وهذا سرّ الإله المحجوب والمعلن. «إذا كان هو إله إسرائيل فلينزل عن الصليب فنؤمن به!». يجيب اللَّه عن هذا السؤال بصمته، ولكن لمن له أذنان، فهذا الصمت يكشف محبّته للبشر. هذه هي الحماقة التي يذكرها بولس الرسول، والاحترام المتجاوز الإدراك الذي يكنّه اللَّه لحرّيّتنا.

كلّ برهان يفرض ذاته يغتصب الوعي البشريّ محوّلًا الإيمان إلى معرفة سطحيّة. يحدّ اللَّه من قدرته الفائقة، ساجنًا نفسه في ألم محبّته، يسحب كلّ الآيات، يعلّق كلّ الأعاجيب ويرمي بظلّه على ضياء وجهه. هذا هو التنازل الذي يستجيب له الإيمان. يحفظ هذا التنازل قسطًا صالبًا من الظلمة المنيرة، هامشًا يحمي حرّيّتنا من كلّ اغتصاب، منقذًا قدرتنا على قول «لا» في كلّ لحظة. ذلك بأنّ قدرة الإنسان على قول «لا» هي ما يعطي الـ«نعم» كلّ قوّتها: «نعم، ليكن لي بحسب قولك» يجعلها اللَّه بمستوى حرّيّته الخالقة القائلة للكون «ليكن نور...».

الإيمان حوار ولكنّ صوت اللَّه يكاد يكون صمتًا. يفتن النفس بإغراء سرّيّ. لا يعطي اللَّه أوامر ولكنّه يدعو: «اسمع يا إسرائيل»...، «إن أردت أن تكون كاملًا...». أوامر الطاغية تستدرّ مقاومة سرّيّة من النفس، ولكن من يستطيع أن يصدّ دعوة المعلّم إلى العشاء العظيم؟ من له أذنان هو القادر على أن يغلق يده على العطيّة ويقبلها.

في خلق اللَّه كائنًا حرًّا هو يخلق إمكانيّة علاقة أي تبادل. اللَّه آب من دون أن يفرض أبوّته. يهب نفسه في ابنه فيصبح كلّ البشر أبناء. «لقد أسميتكم آلهة أبناء اللَّه العليّ»، يقول للبشر شرط أن يكتشفوا بنوّتهم في المسيح حتّى يقولوا مع الروح «يا أبا الآب». حرّيّة الأبناء صدى لعطيّة الآب، أي الروح القدس. يقبل اللَّه أن يكون مرفوضًا، منبوذًا، مرذولًا من خليقته نفسها. فعلى الصليب انحاز اللَّه للإنسان ضدّ اللَّه. 

يعرف المسيحيّ إن أحسّ بالفقر والمتروكيّة أنّ هناك من هو أفقر منه، شحّاذ الحبّ الواقف على باب قلبه: «هاأنذا واقف على الباب وأقرع». جاء اللَّه ليجلس إلى مائدة الخطأة ويأكل معهم. الحبّ عجيب يستدعي التبادل تلقائيًّا حتّى لو كانت الإجابة رافضة أو غير واعية. لذلك كان كلّ حبّ كبير حبًّا مصلوبًا. في انتظاره جوابًا على قدر عظمته يبقى الحبّ عطيّة كلّيّة، ذبيحة حتّى الموت والنزول إلى الجحيم.

لا تكمن الخطيئة في عدم الطاعة. هي أوّلًا رفض عطيّة الشراكة، رفض الحرّيّة والمحبّة البنويّة. مات اللَّه حتّى يحيا الإنسان فيه. لذلك استطاع بولس أن يقول: «لست أنا أحيا بل المسيح يحيا فيّ. هذا كان دخوله إلى ملء الحبّ، إلى خدر الختن».

تفرض المعرفة العلميّة رؤيتها للأشياء وتفرض عليّ قبولها. لا أستطيع أن أنكر وجود دودة، لا أستطيع أن أنكر وجود جرثومة أو بكتيريا، غير أنّني أستطيع أن أنكر وجود اللَّه. لذلك كان الإيمان إيقانًا بأمور لا تُرى، تجاوزًا للحتميّة والسببيّات. طوبى لمن آمن  ولم ير، أي طوبى لمن آمن ولم يكن مرغمًا ولا مقهورًا على الإيمان.

يبدو الإيمان هكذا قفزة إلى ما وراء المعرفة العقليّة (أو الى عمق أعماقها حيث تغتذي من نهر الحياة)، قفزة يدعو إليها العقل نفسه عندما يدرك حدوده. هو امتداد إلى ما  وراء البراهين (أو إلى النور الذي فيها) إلى الحقيقة المحجوبة التي تكشف نفسها. يتجاوز كلّ الوسائط وكلّ المفاهيم فتظهر المعرفة كشفًا للحضور.

ذلك بأنّ اللَّه نفسه معيار حقيقته والدليل على وجوده. في كلّ فكر عن اللَّه يمرّ في عقل الإنسان، يعقل اللَّه نفسه في الإنسان. أو قل إنّه هو الذي يكشف نفسه في الفكر وفي وثبات القلب. لذلك لا يمكننا أن نبرهن وجود اللَّه بالمنطق وحده وأن نقنع الناس بقوّة الكلام. لا يسجن اللَّه في حلقة من المفاهيم والتسلسل السببيّ والبراهين. لم تكن  هذه إلّا سبلًا أو مراقي إلى من يتجاوز كلّ إدراك. لذلك ليس الإيمان اختراعًا. هو عطيّة ملكيّة للكلّ، يشهد الإنسان لمجّانيّتها.

لا شيء يفصلنا عن محبّة اللَّه في المسيح يسوع، قال بولس الرسول. وأردف دوستويفسكي: «إن برهن لي أحد أنّ الحقيقة ليست إلى جانب المسيح، فإنّي أختار المسيح». ذلك بأنّ الحقيقة التي تبرهن لك «أ + ب» لا يمكنها أن تقول كلّ الحقّ. اللَّه هو الذي يرى نفسه فينا. وإن كان اللَّه غير منظور للخليقة، فهو منظور لنفسه فينا. المولود من الروح هو روح. هذا يعني أنّ الإنسان يحيا من حياة اللَّه فيه. لا نرى اللَّه إلّا باللَّه. هو «المشوق إليه» دائمًا كما يقول غريغوريوس النيصصيّ. «لك كلّ الأسماء وكيف أسمّيك وأنت الوحيد الذي لا يسمّى؟» يسأل غريغوريوس النزينزيّ.

الإنسان شوق. وهذا الشوق هو الذي يقوده إلى كنز قلبه. وهل يشتاق الإنسان في الأخير إلّا إلى ما هو فوق العالم؟  خلق قلب الإنسان ليسع اللَّه لذلك لا يشبعه شيء (نيقولا كاباسيلاس)، فكلّ شيء خلق لغايته وغاية القلب أن يسعى إلى المسيح.

نور المسيح يضيء كلّ إنسان يأتي إلى العالم. فهل من إنسان واحد لم تعط له، في العمق، نعمة الإيمان أي تحسّس هذا النور؟ بحسب الآباء، طلب واحد لا يردّه الآب في الصلاة هو طلب الروح القدس. لذلك فالإنسان الذي يبحث بصدق يستطيع الصلاة: «يا اللَّه، إن كنت موجودًا، أرسل لي روحك». هذه الـ«إذا» هي ذاتها التي تفوّه بها توما واستجاب له الربّ فأقرّ توما: «ربّي وإلهي». في طرفة عين، تتسلّل النعمة إلى القلب وتفتح له آفاقًا لم تخطر على عقل بشر. ولكنّ اللَّه وإن بقي محجوبًا فهو يهدي العالم بقدّيسيه وشهدائه الذي سكروا بدم الحمل المذبوح منذ إنشاء العالم. ويهدي العالم إلى نوره العجيب بسبل نعرفها ولا نعرفها. فالظلمة، وإن سادت كثيرًا، فهي لن تدركه. n

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search