طبيعة المسيح الإنسانيّة
الأب ميخائيل (الدبس)
من الأسئلة التي طرحت حول خصائص طبيعة المسيح الإنسانيّة السؤال التالي: هل اتّخذ أقنوم الكلمة الطبيعة الإنسانيّة في حالها قبل السقوط أو الطبيعة الإنسانيّة في حالها بعد السقوط، أي الخاضعة لنتائج خطيئة آدم الأوّل، والتي تسمّى الخطيئة الجدّيّة؟ هل اتّخذ طبيعتنا القابلة للموت والفساد أو الحرّة منهما؟
يفترض هذا تسليمًا بفكرة التمييز بين الطبيعة البشريّة قبل السقوط ومثيلتها بعد السقوط. مجمل المدوّنات اللاهوتيّة تؤكّد تبدّلاً طرأ على الطبيعة البشريّة بعد السقوط، لسنا بوارد الخوض فيها أو في القطاعات التي طالها هذا التبدّل. ما يهمّنا هو الإجابة عن السؤال المطروح لما له من أبعاد خلاصيّة ووجوديّة ومسلكيّة في حياة المسيحيّين.
عند قراءتي ترجمة لمقالة كتبها جورج فلورفسكي، العام 1930 في باريس باللغة الروسيّة، بعنوان «موت الصليب»، لفتني مقطع حول سرّ التجسّد له علاقة بسؤالنا: «يجب أن نشير إلى أنّ الطبيعة الإنسانيّة الأوّليّة (ما قبل السقوط) هي التي اتّخذها (أقنوم الكلمة). الطبيعة الطليقة من الخطيئة الجدّيّة التي تخلو من الخطيئة. هذا لا يبطل كمال طبيعته الإنسانيّة ولا مساواة جوهر طبيعته البشريّة وطبيعتنا نحن الخطأة، طالما أنّ الخطيئة لا تنتمي إلى الطبيعة البشريّة بل هي، على عكس ذلك، أمر دخيل، طارئ. عبر التجسّد الذي أصلح الصورة الإلهيّة في الإنسان، اتّخذ الكلمة طبيعة الإنسان الأوّليّة المخلوقة على حسب صورة اللَّه، وهذا لم يشمل الأهواء، لم يكن اتّخاذًا «للإنسانيّة مع أهوائها». بكلام آخر كان اتّخاذًا لحياة الإنسان لا لموته. إنّ حرّيّة المخلّص، كإنسان، من الخطيئة الجدّيّة تشهد لحرّيّته من الموت الذي هو «أجرة الخطيئة». إنّ المخلّص، من اللحظة الأولى لولادته لم يخضع لا للفساد ولا للموت، على مثال الإنسان الأوّل. أي أنّه قادر على ألّا يموت ولكنّه قادر على أن يموت. هكذا فإنّ موت المخلّص يمكن أن يكون فقط طوعيًّا، وليس نتيجة لازمة للطبيعة الساقطة، بل هو قبول طوعيّ، مسرّة إلهيّة».
ثمّ يعود ليؤكّد: «لكنّ موته كان موتًا طوعيًّا، حيث إنّ طبيعة الربّ البشريّة، والتي كانت معتقة من الخطيئة الجدّيّة، والتي ما كانت مصانة من حضور الألوهة فيه فحسب بل أيضًا عبر الاستخدام الصالح لحرّيّة هذه الطبيعة البشريّة، لم تكن خاضعة لحتميّة الموت بل «قبلت» الموت انطلاقًا من مسرّة محبّته الخلاصيّة لنا».
قبل التعليق على ما أوردناه، لا بدّ من أن نشير إلى أنّ من تابع نشوء النتاج اللاهوتيّ عند الروس الشتات، في أوروبّا وأميركا، يدرك تمامًا موقع جورج فلورفسكي فيه، ومساهمته الجبّارة في تقديم الأرثوذكسيّة إلى عالم الغرب. أضف إلى ذلك مقدار مساهمته في تنقية اللاهوت الأرثوذكسيّ عمومًا والروسيّ تحديدًا، من التأثيرات الغربيّة التي طالته على مدى قرون، وفي إحياء التراث الآبائيّ الذي كان مهملاً ومنسيًّا. لذا اتّسمت كتاباته بطابع تغييريّ طال أفكارًا لاهوتيّة كانت سائدة حينها، وغريبة عن الفكر الآبائيّ. لا يمكننا أمام ما ذُكر إلاّ أن نقرّ بكبر هامة هذا الرجل اللاهوتيّة وبخدماته الجليلة في إحياء الفكر الأرثوذكسيّ في الغرب والشرق. لكنّ هذا كلّه لا يمنعنا من الوقوف بدهشة واستغراب عند ما قاله في هذا الشأن، لا لنقضه أو إبطاله، بل للبحث عن مبرّراته وظروفه، هو الذي كان همّه صون سلامة سرّ التجسّد الخلاصيّ وتنزيه شخص يسوع المسيح عن الخطأ. هناك ثغرة تكمن وراء عدم الوضوح الذي يكتنف ما قاله في هذه المسألة.
نستخلص عبر قراءتنا هذه الأسطر أنّ المسيح، بالنسبة إلى جورج فلورفسكي، لم يتّخذ، «من اللحظة الأولى لولادته»، طبيعتنا الساقطة أي الخاضعة للموت والفساد، بل طبيعتنا كما كانت قبل السقوط. أي أنّه كإنسان أيضًا، لا كإله، كان غير قابل للموت والفساد، ولكنّه كإله، قادر أيضًا على أن يجعل إنسانيّته مائتة، “قادر على أن يموت ولكنّه قادر أيضًا على ألاّ يموت”. وتاليًا فإنّ موته هو موت طوعيّ وليس موتًا طبيعيًّا. تتأتّى طوعيّة موته من كونه إنسانًا غير مائت وقَبِلَ أن يموت. لكنّ المفهوم الخلاصيّ لطوعيّة موته قائم على طوعيّة تجسّده. بمعنى أنّه من اللحظة الأولى التي اقتبل فيها، طوعًا، أن يصير إنسانًا، اقتبل معها أن يموت، ولا تعني إطلاقًا أنّه كإنسان، غير قابل للموت، جعل نفسه يموت طوعًا. وبمعنى آخر يمكن أن نفهم طوعيّة موته بأنّه كان قادرًا، وهو البريء من الجرم، أن يقنع قاتليه ببراءته، أو أن تتدخّل قوّة ألوهيّته في صدّ قاتليه. هذا ما عبّر عنه يسوع لأحد تلاميذه الذي «ضرب عبد عظيم الأحبار فقطع أذنه»، «أوَتظنّ أنّي لا أستطيع أن أسأل أبي فيمدّني الساعة بأكثر من اثني عشر فيلقًا من الملائكة»؟ (متّى 26: 50- 53).
تكمن غرابة ما يقوله فلورفسكي في أنّ طبيعة الإنسان غير الساقطة وغير القابلة للموت والفساد لا تحتاج إلى خلاص. ما تحتاج إلى الخلاص هي طبيعتنا الساقطة والفاسدة والمائتة. وفلورفسكي نفسه يستشهد بقول غريغوريوس اللاهوتيّ في المقالة عينها: «ما لا يؤخذ لا يخلص»، ليؤكّد أنّ الكلمة أخذ طبيعتنا كاملة. هو حريص على «كمال طبيعته الإنسانيّة ومساواة جوهر طبيعته الإنسانيّة مع جوهر طبيعتنا نحن الخطأة»، وأنّ قوله عن تحرّر يسوع من الخطيئة الجدّيّة لا يبطل هذا الحرص.
وجه آخر من أوجه غرابة أقوال فلورفسكي نقرأه في قوله: «اتّخذ الكلمة الطبيعة البشريّة الأوّليّة (ما قبل السقوط) المخلوقة على صورة اللَّه. هذا الاتّخاذ لم يشمل الأهواء، لم يكن اتّخاذًا للإنسانيّة مع أهوائها». لم يوضح فلورفسكي هنا ماهيّة هذه الأهواء. في التراث النسكيّ تمييز بين أهواء معابة (الزنى، الشراهة، الكبرياء، القتل، الكلام البطّال، الكذب...) وأهواء غير معابة (الجوع، العطش، الخوف، الغضب، الألم...)، والتي في حال عدم ضبطها تقود إلى أهواء معابة أي إلى الخطيئة. فهل كان يقصد أنّ المسيح لم تكن لديه أهواء غير معابة؟
كما أورد في الفصل الرابع من المقالة عينها: «فالمخلّص، لكونه يملك طبيعة بشريّة كاملة، كان قابلاً للموت، حيث إنّ الموت كان شيئًا ممكنًا حتّى بالنسبة إلى الإنسان الأوّل (قبل السقوط)، وبالنسبة إلى الطبيعة البشريّة التي لا عيب فيها». هذا قول صحيح وهذا ما قصده ربّما في قوله: «قادر على أن يموت ولكنّه قادر أيضًا على ألاّ يموت»، ولكنّه يناقض أقواله السابقة. فمن المؤكّد وعلى حسب قول ثيوفيلوس الأنطاكيّ، في كتابه الموجّه إلى أفوتليكوس 2: 27، «الإنسان الأوّل لم يكن خالدًا ولم يكن مائتًا بل قابلاً لكلتا الحالتين» (الخلود والموت).
تخفّ حدّة الغرابة والتناقض بين القولين حين نعود إلى السبب الذي يعلّل به قوله «إنّ المخلّص من اللحظة الأولى لولادته لم يخضع للفساد ولا للموت». السبب هو حرّيّة المخلّص من الخطيئة الجدّيّة. ما معناه أنّ المسيح لا تسري عليه مفاعيل الخطيئة الجدّيّة. بحسب الفكر السائد في الأوساط اللاهوتيّة والذي كان يعتبر أنّ البشريّة جمعاء تتحمّل ذنب خطيئة الجدّ الأوّل، وهي مسؤولة عنها وتتحمّل عاقبتها، لذا حكم عليها جمعاء بالموت والفساد. لذا اعتبر فلورفسكي أنّ المسيح اتّخذ طبيعتنا قبل السقوط حتّى لا تصبح طبيعته البشريّة مذنبة وخاطئة نتيجة وراثته الخطيئة الجدّيّة. لذا هي متحرّرة من الموت والفساد.
لكنّ مفهوم الخطيئة الجدّيّة هذا خاطئ وقد ساد في الغرب والشرق حتّى أواسط القرن الماضي، وتحديدًا حتّى ظهور كتاب الخطيئة الجدّيّة للأب يوحنّا (رومانيذيس) العام 1957، حيث عرض فيه المفهوم الأصيل للخطيئة الجدّيّة رافضًا، انطلاقًا من نتاج الفكر اللاهوتيّ الآبائيّ خلال القرون الثلاثة الأُوَل، ومن التعليم الأرثوذكسيّ حول الخطيئة والسقوط والموت والشرّ والشيطان وحرّيّة الإنسان، وراثيّة الخطيئة الجدّيّة، بمعنى أنّ لا المسيح الإنسان ولا البشريّة جمعاء تتحمّل ذنب الخطيئة الأولى. بل ما نتج من خطيئة آدم حالة إنسانيّة جديدة أساسها دخول الموت والفساد إلى البشريّة وما رافق هذه الحالة من خوف من الموت ساد الجميع. فالموت والخوف المرافق له جعلا الجميع يخطئون «فكما أنّ الخطيئة دخلت في العالم على يد إنسان واحد وبالخطيئة دخل الموت، كذلك سرى الموت على الجميع وبسببه الجميع خطئوا (على عكس ما ورد في بعض الترجمات «لأنّهم جميعًا خطئوا») (راجع كتاب رومانيذيس المذكور، الفصل السادس). كان فلورفسكي تحت تأثير المفهوم الخاطئ للخطيئة الجدّيّة عند تدوينه مقالة «موت الصليب» العام 1930.
خلاصة القول إنّ المسيح اتّخذ طبيعتنا الساقطة ليحرّرها، بشخصه، من نتائج السقوط عبر عدم سقوطه في الخطيئة. اتّخذ طبيعتنا المائتة لينتصر بها، بشخصه، على الموت ويهبنا عدم الموت. اتّخذ أهواءنا غير المعابة حتّى يتسامى بها، بجهاده الشخصيّ، ويكون سيّدًا عليها فلا تقوده إلى الخطيئة. ذاق الموت بالجسد حتّى يحرّرنا منه. أنجز يسوع المسيح هذا التحرّر عبر تآزر طبيعتيه الكاملتين الإلهيّة والإنسانيّة خلال مسيرة حياته بيننا، وتأليه الطبيعة الإنسانيّة والبلوغ بها إلى الحياة الأبديّة وعدم الفساد.
هذه المسيرة التأليهيّة، التي افتتحها يسوع المسيح في شخصه خلال حياته البشريّة بيننا، بدأت من لحظة ولادته في الجسد، وبلغت كمالها على الصليب وأُعلنت ظافرة في القيامة. هي ليست واقعة تلقائيّة سحريّة بل هي مسيرة تصاعديّة ديناميّة جهاديّة، سلكها يسوع المسيح واحتمل، خلالها، صلبانًا وقيامات عدّة زُرعت في دروب حياته الأرضيّة، فواجهها بمحبّته التي لا تطلب لذاتها.هي المسيح، شخصًا ونموذجًا لكلّ مسيحيّ يسعى إلى الحياة الأبديّة وإلى الشركة مع الثالوث القدّوس، عبر جهاد نسكيّ ما كان يومًا، في أرثوذكسيّتنا، حكرًا على فئة من المؤمنين، بل هو نهج حياة يسلكه كلّ مسيحيّ رأى أنّ دنياه ميدان تمرّس على محبّة باذلة وحرّيّة من أناه وسيادة على أهوائه ورغائبه.n