2018

1. الافتتاحيّة: يد وغيوم وسماء - أسعد إلياس قطّان – العدد الأول سنة 2018

يد وغيوم وسماء

أسعد قطان

 

 

إلى الأب إيليّا 

يا أبتِ

حين يعمل الأكابر، يعملون بصمت. وحين يرحلون، يرحلون بصمت. فإذا قال قائل إنّك لم تكن صامتًا لكونك، خلال طوال السنين، مـلأت صفـحـات «النور» بقلمك الـذي لا يعرف كـللاً، فلقد فاتَهُ أنّ هذه ما كانت كلماتك أنت، بل ما وضعه السيّد الربّ في فمك حين أوعـز إليـك، مثـل نـبيّه العظيم حزقيّال، أن تبتلع السفر (حزقيّال 3/1-3).

لقد أبيت أن تودّع قرّاءك حين قرّرت أنّ الوقت قد حان ليستلم سواك رئاسة تحرير هذه المجلّة التي ترافق شؤون الكنيسة الأنطاكيّة، في حلوها ومرّها، منذ انطلاقة الحركة. وكيف تودّعهم وأنت ما زلت على عهد معهم لا على مواصلة الكتابة كأيّ كاتب آخر من كتّاب «النور» فحسب، بل أيضًا على قول كلمة الإنجيل أيًّا تكن الظروف ومهما غلا الثمن؟ أمّا نحن الذين عرفناك ضمير هذه المجلّة ومحرّكها ومدقّق كلّ حرف فيها، فلقد منعتنا المحبّة من أن نعترض على قرارك، ومنعتنا الثقة: المحبّة التي تمجّ المناظرة وتستقبح الضغط، والثقة بأنّك بيننا الأغزر حكمةً والأكثر شفافيّةً لتدرك مشيئة الربّ في أزمنة كنسيّة يختلط فيها الحقّ بالباطل، ويظهر الشيطان في هيئة ملاك من نور.

لا وداع إذًا... ولا رحيل. ولكنّه الإيمان بأنّ التواصل ممكن من غير أن يرتبط بالأشخاص، وبأنّ اختلاف الأيدي لا يقلّل البتّة من توهّج الشعلة. والحقّ أنّ «النور» في عهدك، وعهد بعض مَن عاونك وقرّر أن ينسحب معك من هيئة التحرير، قامت بأهمّ وثبة في تاريخها لا من حيث الشكل فحسب، بل خصوصًا من حيث انتقالها من مجلّة يسيطر عليها المناخ «الخضريّ» في الخمسينات والستّينات لغةً ومحتوى، وذلك نسبةً إلى المطران جورج (خضر)، إلى مجلّة رأي تشتمل على تنوّع في الأساليب والمضامين، وذلك من دون أن تقع في فخّ التحوّل إلى مجرّد مكان يوثّق بعض النشاطات الكنسيّة، وينشر محاضرات ألقاها أصحابها هنا وهناك. ولا أخالني أبالغ في القول إنّ عهدك رئيسًا للتحرير رسم للمجلّة هويّةً من نوع آخر رغم بقائها مخلصةً للخطوط الكبرى في جذورها، وأمينةً على الصوت النهضويّ في هذه الكنيسة. وإنّ أيّ شكل ستتّخذه هذه المجلّة في الآتيات من الأيّام ينبغي له أن يأخذ في الحسبان هذه الهويّة بوصفها الـمَعين الذي يغتذي منه أيّ تجدّد مستقبليّ.

نحن، إذًا، على عهد مزدوج: أن تتواصل الوثبات بما ينسجم مع تبدّل الأزمنة وآنيّة المواضيع وتوقّعات القرّاء، وأن تبقى «النور» أمينةً للخطّ النهضويّ الذي التزمته منذ تأسيسها، والذي من دونه لا مبرّر لوجودها، فضلاً عن استلهامها تراثها المتراكم في السنوات الماضية، من حيث أناقة اللغة والوحدة في التنوّع مضمونًا وأبوابًا والصراحة المطلقة في التعامل مع الكتّاب شبابًا وشيبًا.

يا أبتِ،

حين ستقرأ هذه الافتتاحيّة، لن يحمل عدد «النور» الذي تحتضنه بين يديك اسمك رئيسًا للتحرير ربّما للمرّة الأولـى منذ نحو ربع قرن. وستغرورق عيناك باللآلئ التي تنبعث من العيون حين تنفطر القلوب. أستحلفك بربّ الإنجيل ألاّ تقسو على نفسك. ادخل مخدعك ونم قليلاً، حتّى لا يهدّ التعب جسمك. فالغيوم البيض التي في كبد السماء ليست مستعجلة. ومتى أخذت قسطًا من الراحة لن يطول، كيلا يضطرب الكـاهن الذي فيـك، اخرج إلى المدى، ومدّ راحتك إلى السماء، والتقط البياض الأبيض، التقط الغيوم وانثرها على أحبّاء سيّدك المصلوب، لئـلاّ يهـلـك المساكين من قلّة الحبّ... n

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search