إدارة المؤسسات التربويّة في الكنيسة
على ضوء كتاب «المعلّم في الزمن الصعب»
الأب ميخائيل الدبس
عيون الأحبّة تكشف حسنًا ما ولكنّها، في الوقت عينه، تستر مقابح جمّة. أمنيتي أن تعمى عيناي عن المكشوف فلا يشغلهما إلاّ ما سترته المحبّة ليبقى الإنسان فيّ سالمـًا، مجاهدًا ضدّ النفس، ساعيًا نحو الإنسان الكامل الذي السبيل إليه كامن في الإنسحاق والتواري والتلمّس الدائم »للدودة والتراب« (مزمور 21،6)، (ص ٩٣).
هذا ما اختلج في قلب شفيق حيدر، أخي ومعلّمي، يوم أقام له إداريّو الثانويّة الوطنيّة الأرثوذكسيّة ومعلّموها حفلاً خطابيًّا، عند انتهاء خدمته كمدير في الثانويّة المذكورة.
وأنا في هذه الحضرة، سأتجنّب، كما فعلت دومًا، المديح الأجوف. لأنّي أرى في نفسي حسنًا وأرى فيها قبحًا مستورًا وآخر مرئيًّا، تعمى عيون الأحبّة عنه فلا أستسيغ مدحًا، لأنّ فيه عائقًا »لسعيي نحو الكمال الكامن في الانسحاق والتواري«.
لكنّ المحبّة التي ضجّ بها كتاب »المعلّم في الزمن الصعب«، تفرح بالحقّ (1كورنثوس ١٣: ٦) وبالبناء ولها أن تتبيّنهما في وجه عيون الحاقدين التي لا ترى إلاّ المقابح والهفوات مضخّمة. ولا عجب في ذلك فإنّ الحاقدين »ينظرون إلى القذى في عين الآخر ولا يأبهون للجذع الذي في عينهم« (متّى٣: ٧)، ولأنّ البناء لا يستقيم عندهم إلاّ إذا كانوا هم البناة. »فلا يعتبرنّ أحد أنّ أيّ عملٍ لا يخصّه إلاّ إذا قام به هو« (ص ٩٧).
وبعد، فالكتاب يحكي المعلّم. وأنا هنا سأحكي صانع الكتاب كمدير. لأنّي تعلّمت منه أنّ المدير لا يُصنَّع في المكاتب، بل في قاعات الصفوف وأروقة المدارس وملاعبها.
المدير الفالح هو أوّلاً معلّم »علّم مع زملاء له في ورشة الحبّ والعطاء«، وإن كان لشفيق حيدر ما يعتزّ به فبمهنة التعليم يعتزّ (ص ٩٤). »وإنّ قاعدة البناء التربويّ، وأساس الخطط التربويّة، ومفتاح نهضة البلد إنّما هو المعلّم« (ص ٤٦). وفي كلّ مناسبة تكريم له لم يرَ ذاته إلاّ ممثّلاً للجماعة التي تعمل بهدي إدارته، فالتكريم بالنسبة إليه هو، صدقًا، تكريم لرفاق الدرب، يتخطّى شخصه إلى العاملين معه داخل المدرسة (ص ٨٩). لذا لن أكون خارج موضوع الكتاب إنْ تكلّمْتُ عن شفيق حيدر مديرًا.
لقد وضع الكاتب قواعد ثابتة للعمل الإداريّ التربويّ الكنسيّ. فقد اعتبر، أوّلاً، أنّ المؤسّّسات في الكنيسة »مجال للتكريس... ومسؤوليّة المكرَّس مسؤوليّة كنسيّة كهنوتيّة« (ص ٩٧). وتبلور معه لاهوت المؤسّّسة التابعة للكنيسة، إذ هي »بنت رحم الكنيسة« (ص١٢٣). لذا اعتبر الفرق شاسعًا بين الوظائف الإداريّة والماليّة والإدارة التربويّة، وبالأخصّ الكنسيّة منها. لذا »ما هو مفروض في الأولى لا يصحّ في الثانية« (ص ٩٨). فهو تعلّم من الكنيسة وكتابها المقدّس أنّ »المحبّة وحدها تبني« (ص ٦٦)، و»أنّ مفاهيم الإدارة وعلومها لا تفسّر علاقة الحبّ بين الرئيس والمرؤوس ولا تُقنع ذهنًا بالفوائد الناجمة عن هذا الحبّ« (ص ١١٧).
معايير النجاح في عالم الإدارة هي الكسب والكسب فقط. كلّ ما هو إنسانيّ لا يعني شيئًا البتّة في هذا العالم، إلاّ بقدر ما يزيد الكسب. كلّ العلاقات الإنسانيّة ليست إلاّ وسيلة آنيّة في عالم الإدارة، وتفقُد كلّ قيمة لها في حال تحوّلت عائقًا أمام الكسب. لا، بل إنّ الإنسان نفسه هو وسيلة لا يمنع سحقها لبلوغ الكسب. هذا ما نلحظه في العلاقات التي تجمع العاملين في المؤسّّسات، علاقات لا تقيم وزنًا إلاّ لبلوغ المناصب، فيتحوّل العاملون فيها إلى ذئاب تتربّص بعضها ببعض، همّها إرضاء الإدارة وتحقيق المكاسب الماليّة لها. تغيب عن هذه العلاقات كلّ القيم الأخلاقيّة، ويتحوّل حقل العمل فيها غابة وحوش تشوّه إنسانيّة العاملين فيها. والويل لمؤسّّسة تربويّة تسودها تلك الأجواء.
أمام هذا الواقع، هل نرفض ما يقدّمه لنا علم الإدارة من إمكانيّات نجاح وتنظيم ونهضة؟ حاشا! لقد اعتبر شفيق حيدر أنّ إدارة »توازن بين مصلحة المؤسّّسة والواجب الإنسانيّ كفيلة في تحقيق النهضة« (ص ٦٧). هذا التوازن لا يحقّقه إلاّ التزاوج بين علم الإدارة وروح الخدمة والمحبّة وبإشراف مباشر من الأسقف، ممثّل الجماعة وضامن استقامة العمل في مؤسّّساته الكنسيّة. من هنا رأى الكاتب ضرورة إشراف الأسقف الدائم على مؤسّّساته وأن يعود إليه، شخصيًّا، أخذ القرارات الحاسمة في كلّ ما يتعلّق بسير العمل فيها.
هل نجح شفيق حيدر في إحداث هذا التوازن؟ لديّ جواب أوّل عن هذا السؤال عبر خبرتي الشخصيّة معه مذ بدأتُ عملي في المدرسة العام 1981، وتلمّسْتُ مقدار تفهّمه وصبره ورعايته لبداءتي التربويّة. وجواب آخر قرأته في كتابه هذا، أستشفّه من ألسنة من مرّوا في هذه المدرسة، إذ يقول: »هذه المدرسة سرٌّ عجيب غريب، ما مرّ فيها أحد إلاّ وأثّرت فيه وعلق في شركها، فأضحى يشعر، بصدقٍ أنّها بيته وعائلته وأنّه جزء منها، وهو عضو في جسدها الممدود في الزمن لسنوات طوال بلغت قرنًا وعشر قرنٍ« (ص ١٢٦).
أضف إلى ذلك أمرين جليّين:
١- ما من طالب علمٍ أُقصِي عن العلم لتقصير في تسديد القسط.
٢- إنّ مؤسّّسة مار إلياس هي المؤسّّسة الوحيدة في الكرسيّ الأنطاكيّ التي بنت ذاتها من دون تصدّق من أحد، أو معونة تأتيها إلاّ من اللَّه سبحانه (ص ٩٦) .
وختامًا، وعدُنا إلى اللَّه في هذا الزمن الصعب أن تبقى الثانويّة الوطنيّة الأرثوذكسيّة »لكلّ مَن يمرّ بها بيتًا، ولكلّ مَن يرتادها أهلاً وإخوة. مدرسة مار إلياس هكذا كانت منذ تأسيسها وهكذا ستبقى، وهذا يردّده أبناء الميناء جميعهم في السرّ والعلن« (ص ٨٩). وأضيف: إنّها لن تكون إلاّ هكذا وإلاّ فلن تكون. حتميّة التاريخ ليست قدرًا أعمى، بل هي حضور اللَّه في التاريخ عبر رجال أحبّوا وجسّدوا محبّة اللَّه في مؤسّّسات حملت اسمه. ولن يخلو التاريخ من رجال للَّه. l