الجهاد والاستشهاد في الفكر المسيح
الأب يوحنّا ياسمين
الجهاد والاستشهاد في الفكر المسيحيّ(2)
الاستشهاد:
كلمة »شهيد« تعني الشاهد بالمعنى الذي يعرفه القضاء. وفي المسيحيّة صارت تنطبق على الشاهد الذي يبذل دمه وحياته تأكيدًا لإيمانه وتمسّكًا به. وفي هذا أفصح الشهادات التي يستطيع الإنسان أن يعطيها لكونها تخلّيًا عن الذات حتّى الموت في سبيل يسوع المسيح. من هنا الأهمّيّة القصوى والاهتمام اللذان اكتسبتهما كلمة شهيد في التاريخ المسيحيّ.
في العهد الجديد تستعمل كلمة شاهد للدلالة على الشاهد بالمعنى القانونيّ (متّى 18: 16)، أو بالمعنى العامّ (رومية 1: 9). وفي أحيان كثيرة نرى يسوع يتوجّه إلى تلاميذه مطلقًا عليهم كلمة »شهود«، إذ قد شهدوا دعوته وقيامته وسيعلنون ذلك إلى كلّ الشعوب، أنتم شهود لذلك (لوقا 24: 48). وقد سبق المعلّم فأخبر رسله عن مصاعب واضطهادات سوف يواجهونها نتيجة لشهادتهم هذه، »فانظروا إلى أنفسكم لأنّهم يسلمونكم إلى مجالس وتجلدون في مجامع وتوقفون أمام ولاة وملوك من أجلي شهادة لهم« (مرقس 13: 9).
الرسالة التي حملها الرسل إذًا هي شهادة عن يسوع لأنفسهم ولكلّ الأمم، والرسول هو الشاهد (أعمال ٣٩: ١٠- ٤١، ٢٦: ٢٢). بولس الرسول حين خاطب اليهود في أورشليم، عبّر عن أساه لماضيه إذ قال: »حين سفك دم إستفانوس شهيدك كنت واقفًا راضيًا بقتله، وحافظًا ثياب الذين قتلوه« (أعمال 22: 20). من هنا نرى للمرّة الأولى كيف أنّ عبارة »شهيد« بدأت تتّخذ معنى أوسع من دلالته الأصليّة وصارت تشير إلى موت الشاهد. لكنّ هذا المعنى لم ينتشر بشكل واسع في الفكر المسيحيّ إلاّ في فترة لاحقة.
لن نبالغ أو ندّعي زورًا إذا قلنا إنّ مصطلح »الشهيد« غير موجود في المسيحيّة، بل هو مصطلح أدخل في كتابات المسيحيّين وفي شرحهم الكتاب المقدّس والعهد الجديد خصوصًا، تأثّرًا بالفكر الإسلاميّ. فالمسيحيّون يصفون إستفانوس بأنّه أوّل الشهداء في المسيحيّة، غير أنّ هذه التسمية غير موجودة في نصّ العهد الجديد بل هي موجودة في الشرح الذي أوضح النصّ. كما لم نعثر في العهد الجديد على نصّ يستخدم كلمة »شهيد«، سوى النصّ المذكور في أعمال الرسل (22: 20): »وأنّي كنت حاضرًا حين سفك دم شهيدك إستفانوس، وكنت موافقًا على قتله، محافظًا على ثياب قاتليه«، غير أنّه ورد في هامش ترجمة أورشليم الفرنسيّة للكتاب المقدّس ما نصّه: لترجمة اللفظيّة »شاهد«. تدلّ هذه الكلمة (راجع 13: 31) منذ اليوم على »الشهيد« (راجع 7: 59). وبمراجعة ما ورد في (13: 31) نقرأ النصّ: (فتراءى أيّامًا كثيرة للذين صعدوا معه من الجليل إلى أورشليم، وهم الآن شهود له عند الشعب). وأمّا ما ورد في (7: 59)، فهو: (ورجموا إستفانوس وهو يدعو ويقول: »ربّ يسوع تقبّل روحي«).
إذًا، النصّ يصف إستفانوس بصفة الشاهد وفقًا للنصّ القائـل بوجـود شهـود ليسـوع المسيح يبثّون أمره بين الناس، وإستفانوس واحد منهم، ولكن يبدو أنّ علماء المسيحيّين أقحموا موضوع مقتله على يد اليهود حين أشاروا إلى النصّ في (7: 59) تأثّرًا بالفكرة الإسلاميّة لموضـوع الشهـيد ثـمّ غيّروا اللفـظـة إليها أيضًا، وإلاّ لماذا لم يستعـملـوا اللفظـة الأصليّة (شاهد) بدلاً من لفظة (شهيد).
دوافع الاستشهاد في المسيحيّة:
لا يوجد في كلّ تاريخ البشريّة شهداء مثل شهداء المسيحيّة في حماسهم وشجاعتهم وإيمانهم ووادعتهم وصبرهم واحتمالهم وفرحهم بالاستشهاد. فقد كانوا يقبلون الموت في فرح وهدوء ووداعة تذهل مضطهديهم. ولقد قبل المؤمنون بالمسيح مبادئ روحيّة أساسيّة غيّرت حياتهم الشخصيّة ومفاهيمهم ونظرتهم إلى الحياة كلّها وجعلتهم يقبلون الاستشهاد.
لذلك تحتلّ القيامة مكان الصدارة عند المقبلين على الاستشهاد، فالرجاء بالقيامة لا يفارقهم ولا يتزعزع عندهم، لذلك يقبلون الاستشهاد بعزيمة قويّة، وبخاصّة أنّهم يعتبرون أنّ قيامتهم محقّقة بمجرّد انتقالهم من هذه الحياة الأرضيّة.
يقول القدّيس مكسيميانوس (295): »أنا لن أموت أبدًا، فإذا تركت هذا العالم فروحي تحيا مع المسيح سيّدي«. أمّا القدّيس يوليوس (302) فيقول: »اخترت أن أموت في الزمن لكي أحيا في الأبديّة مع القدّيسين«. ويؤكّد كلاوذيوس (303) لجلاّديه: »مكافأتكم (بسبب تعذيبنا وقتلنا) تدوم وقتًا يسيرًا، أمّا اعترافنا بالمسيح سيّدًا، فيساوي خلاصًا أبديًّا«. ويقول إيريناوس (304 وهو غير أسقف ليون): »أنظر إلى حياتي الأبديّة لذلك لا أقدّم الذبائح للأوثان«. من هنا نرى كلّهم استشهدوا بسبب إيمانهم ورجائهم بالمستقبلات، وقوّة ثقتهم بقيامة المسيح التي بها يقومون هم أيضًا.
القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم، عندما أرادوا أن ينفوه إلى خارج حدود أبرشيّته، قال لهم: »أين تذهبون بي؟ إلى أيّ مكان أذهب؟ قالوا: إلى بلد بعيد وبعيد جدًّا، إلى مكان قاحل، قال: لا يهمّني، أنا أسأل سؤالاً: هل هناك اللَّه؟ قالوا له: اللَّه موجود في كلّ مكان، قال: إذًا كلّ مكان بالنسبة إليّ سواء، أنا سعيد بربّي في هذا المكان وسعيد به في كلّ مكان وأيّ مكان آخر، هذا لا يزعجني، هذا لا يقلقني، ما دام اللَّه معي، وما دمت أنا مع اللَّه، فأنا سعيد ولا يعنيني المكان الذي أكون فيه«.
فبعد القدّيس أغناطيوس الإنطاكيّ الذي قدّم نفسه ذبيحة، وناشد أهل رومية »أن تتركوني لأقدّم دمي ضحيّة على مذبح الربّ ...«، نجد أيضًا بوليكاربوس الشيخ نحو (158) أسقف أزمير، يضرع إلى اللَّه أن يقبله كذبيحة مقبولة لديه. و هذا أفبلوس (304) يردّ في وجه جلاّده الذي يطلب إليه أن يقدّم ذبائح للأوثان لكي يعفى ويبقى حيًّا: »نعم سوف أقدّم ذبيحة ولكنّي سأقرّب نفسي أمام المسيح الإله. و ليس عندي أيّ شيء آخر أقدّمه«. وفي أعمال استشهاد فيليبّس أسقف هيراكليس وشمّاسه هرمس (x 304) يرد أنّهما قدّما كذبيحة مقدّسة للَّه القدير. الشهادة اذًا هي نوع من أنواع الليتورجيا (أي العبادات والطقوس الكنسيّة) وبامتياز.
هذه هي نظرة القدّيسين إلى الاستشهاد. هذه روح الإنسان المسيحيّ الذي يعيش في الدنيا غير متبرّم ولا متضايق ولا يائس ولا يتمنّى الموت من أجل الخلاص من الحياة الضيّقة. لكنّه يعيش في حياته يحسّ أنّ الحياة تستحقّ أن يعيش الإنسان من أجله، لأنّه يحيا في الدنيا ليستعدّ إلى حياة أخرى له هدف في حياته، وله أمل، والأمل واضح والهدف واضح وهو لا يختلف عن هذا الهدف الواضح.
إذًا الشهداء حينما استشهدوا لم يكن استشهادهم عن ضيق في الحياة ولا عن تبرّم، ولا عن رغبة حقيقيّة في الموت في ذاته ليتخلّصوا من الحياة، كما يحدث للإنسان المنتحر، حاشى، إنّ نفسه ثمينة ومن أجل أنّ نفسه ثمينة يسعى لخلاص نفسه، ولكنّه إذا رأى أنّ خلاصه يقتضي أن يقدّم حياته من أجل المسيح لا يتأخّر، نفسي ليست ثمينة عندي حتّى أتمّم بفرح سعيي والخدمة التي قبلتها من الربّ يسوع المسيح نفسه ثمينة في ذاته، ومن أجلها يسعى لكي يخلص به، ولكن ليست ثمينة بإزاء رسالته وبإزاء الهدف الذي يحيا المسيحيّ من أجله في هذه الحياة متطلّعًا إلى الأبديّة، متطلّعًا إلى الآخر، متطلّعًا إلى جعالة اللَّه تعالى، أنا موقن أنّه قادر على أن يحفظ وديعتي إلى ذلك اليوم.
لذلك ظهر تكريم الشهداء في الكنيسة منذ القدم. نجد إشارة قديمة إلى هذا في استشهاد القدّيس بوليكاربوس أسقف أزمير (القرن الثاني) فكانت ذكراه موضوع احتفال بهج. وقد ظهر التعييد السنويّ للشهيد، في يوم موته، على اعتبار أنّه يوم ولادته في السماء. l يتبع
الشهداء: (في كتابات القدّيس أفرام السريانيّ):
أحبّ القدّيسون اللَّه بكلّ نفوسهم، لذلك لم تستطع لا التجارب ولا العذابات ولا الإغراءات أن تفصلهم عن محبّته. أمّا نحن على العكس، فنعيش في الراحة والترف، فماذا نفعل عندما يأتي ذلك اليوم الرهيب ونرى القدّيسين اللابسي الجهاد يظهرون علامات الجراح والعقوبات الرهيبة؟
نحن، ماذا سنظهر حينذاك؟ أيّة إنجازات؟ هل هي المحبّة والإيمان به؟ هل نظهر هدوءًا أم وداعة؟ رحمة أم مشاركة في آلام الآخرين؟ صلوات نقيّة أو تخشّعًا صافيًا؟ مغبوط هو الذي عنده مثل هذه الإنجازات لأنّه يشترك مع القدّيسين ولا يطرد خارج خدر النور، بل يكون له الدالّة أمام المسيح و ملائكته.
فهلمّ إذًا يا أخي وصر تلميذًا لهؤلاء القدّيسين. هم يعلّمونك الإيمان الكامل والمستقيم، محبّة اللَّه الصادقة الحارّة، مشاركة الآخر في الألم والتشوّق إلى الخيرات المستقبليّة. لقد تغلّبوا على النار المشتعلة بقدرة اللَّه والإيمان الكامل، فتغلّب أنت أيضًا على الرغبة الرديئة التي تشتعل باستمرار. تغلّبوا على الطغاة بالوداعة وطول الأناة، فتغلّب إذًا أنت أيضًا على سلطان الغضب. لقد صار أولئك شهداء بصراحة، فصر أنت أيضًا باستمرار شاهدًا كاملاً للحقّ، أولئك جاهدوا جهاد الدالّة، فجاهد أنت أيضًا حتّى تنال الإكليل وتوجد في الملكوت وارثًا معهم متمتّعًا بالفرح السيّديّ.
فجهادنا اليوميّ، هذا، مع كلّ ما نتعرّض له من محن وتجارب، وضيقات، ليس إلاّ استشهادًا، فليس الشهيد فقط من قطع رأسه، ونال الإكليل، بل كلّ من احتمل، من أجل المسيح، كلّ شدّة واحتقار وإهانة، فالقدّيس موسى الحبشيّ يعتبر كلّ من يحتمل ظلمًا من أجل الربّ شهيدًا. وكلّ صبر واحتمال تظهره محبّة بالربّ ولأجله، تمنح عليه إكليل الاستشهاد من دون ريب. لذلك فنحن إن وهب لنا أن نتألّم من أجل المسيح، فلنفرح بالألم وبكلّ ضيق، وليكن لنا ثقة بأنّ الإكليل سيتوّج هامتنا إذا صبرنا حتّى النهاية مؤمنين بقول الربّ: من يصبر إلى المنتهى يخلص.
الجهاد و الاستشهاد في الفكر المسيحيّ (٣)
الاضطهاد :
مسألة الاضطهاد في الكنيسة هي قصّة المسيحيّة الأولى وسبب انتشارها في كلّ الأزمنة والأمكنة، حيث ارتبط الاضطهاد بالمسيحيّة وهو يسير معها جنبًا إلى جنب حتّى الاستشهاد لغاية يومنا هذا. وأوّل اضطهاد تعرّضت له المسيحيّة كان من اليهوديّة، إذ ولدت المسيحيّة في وسط المجتمع اليهوديّ، ورفض اليهود السيّد المسيح وصلبوه، واضطهدوا أتباعه بالقتل والتعذيب أو بالوشاية وإثارة الجماهير أو بالمقاومة الفكريّة.
بعدها دخلت المسيحيّة الناشئة في صراع طويل مع الوثنيّة المتمثّلة في الأمبراطوريّة الرومانيّة بما له من سلطة الدولة وقوّة السلاح، ووصل هذا الصراع إلى حدّ الإبادة والاستشهاد، وكان الصراع غير متكافئ إذ لم يكن للإيمان الجديد ما يسنده من قوّة زمنيّة أو سلاح اللهمّ إلاّ ترس الإيمان ودرع البرّ وخوذة الخلاص وسيف الروح (أفسس6). واستمرّ الصراع حتّى مطلع القرن الرابع حين قبلت الأمبراطوريّة الرومانيّة الإيمان بالمسيح وسقطت الوثنيّة.
بدأ اضطهاد المسيحيّة في روما على يد نيرون في القرن الأوّل المسيحيّ، وانتهى على يد قسطنطين في القرن الرابع، وكان القصد منه إبادة المسيحيّة. ولكن على العكس كان سببًا في تنقيتها وإظهار فضائلها في بطولات شهدائها، الأمر الذي أدّى إلى انتشارها ودخول الوثنيّين في الإيمان المسيحيّ، و كما عبّر عن ذلك العلاّمة ترتليانوس »أنّ دماء الشهداء بذار الكنيسة«.
كنيسة المسيح أبواب الجحيم لن تقوى عليها (متّى 16: 18).
ليس بمقدورهم أن يحرقوا إلاّ نسخًا عن كنيستنا المقدّسة، إذ إنّ كنيستنا الحقيقيّة هي في السماء، يعجزون عن تدميرها، حتّى ولو كانوا مدجّجين بكلّ ما أرسل لهم من أسلحة جهنميّة مدمّرة. وإذا قتلوا ألوفًا من الكهنة والأساقفة، فإنّهم لم يقتلوا إلاّ خدّام كاهننا الحقيقيّ الذي هو الربّ يسوع المسيح، الموجود في كلّ مكان، ولا يطاله الرصاص. فكلّ المجازر وكلّ الشرور التي فعلوا كانت بدون طائل. إنّها مثل الضرر الذي أنزله أحد ملوك الفرس بالبحر، عندما أمر جنوده بأن يجلدوا الأمواج بالسياط.
أيّها المؤمنون المقهورون في الأرض، لنصلّ كلّ حين ونتذكّر: »عندما هبّت العاصفة على التلاميذ وهم في السفينة، كان يسوع في ذلك الوقت نائمًا نومًا عميقًا في وسط العاصفة الهوجاء. لأنّه كان يعرف شيئًا لم يكن التلاميذ يعرفونه، وهو أنّ كلّ شيء تحت السيطرة. مع أنّ الأمر لم يبدُ كذلك في نظر تلاميذه، لكن بكلمة واحدة منه سكنت العاصفة«.
وتعلّم بطرس منه في هذه التجربة الحصول على النوم الهادىء، فبعد سنوات عدّة عندما قبض عليه كان نائمًا في السجن نومًا ثقيلاً لأنّه كان يثق باللَّه الذي كان يقود حياته. وذلك هو السلام الحقيقيّ. تأكّد أنّ كلّ شيء تحت سيطرته، حتّى ولو بدا لك أنّه نائم، لنصلّ كلّ حين من أجل أن يرحمنا الربّ الإله لنقيم معه في ملكوته السماويّ.
الثورات وشرك الحرّيّة:
ما نريد أن نتناوله في نهاية بحثنا هذا، يعكس لنا الحيرة والريبة التي نواجهها، بسبب بعض الجماعات والفرق الإرهابيّة الشائعة في بلادنا تحت اسم »الحرّيّة«. والمثل الذي قدّمه لنا الربّ يسوع المسيح عن أب محترم وولدين يعلّمنا كيف نتعامل مع ما يسمّى »الحرّيّة«؟ وكيف يمكن أن نعرف إن كانت حرّيّتنا حقيقيّة أو مزيّفة؟
هذا النصّ يمكن أن يجسّد ليس فقط على المستوى الفكريّ كأفراد، بل يمكن أن نعكسه أيضًا على مستوى الجماعة أي (الكنيسة، المدينة) بل حتّى الوطن الحبيب. الذي نستطيع أن نتعلّمه من قصّة محبّة الآب، أو كما نسمّيها الابن الضالّ أو الابن الشاطر، أنّ هناك فخًّا في الحرّيّة علينا أن نكون حذرين كيلا نسقط في براثنه.
في إعلان حقوق الإنسان، هناك ما يسمح بأن تثور الشعوب من أجل حرّيّتها، لكن علينا أن نعرف أنّ ثورات الشعوب هي ليست كما يجري في بلادنا الشرق أوسطيّة، ثورات الشعوب من أجل الحرّيّة هي الثورات التي لا يستخدم فيها العنف والإرهاب والمدافع والدبابات والبنادق والمسدسات أو أيّ نوع من أسلحة الحروب. إنّها الثورات التي تقوم على شعب تائب عاد إلى رشده وتواضع بشدّة إلى أن وجّه صراخه إلى الإله العادل والمحقّ طالبًا غفرانًا، لأنّه هو من قام برشوة الموظّف فعلّمه أن يرتشي، لأنّه هو من رمى القمامة في الشارع فعلّم موظّف البلديّة ألاّ يقوم بمهامّه في جمع النفايات، لأنّه هو من حاول أن يتهرّب من الضرائب المترتّبة عليه فعلّم موظّف الماليّة أن يقبض ثمن تهرّبه من دفع الضرائب المترتّبة عليه.
نحن علينا أن ندرك أنّ اللَّه لن يستجيب لثورات أو حرّيّات لا تجسّد محبّته وتعاليمه. حرّيّة الابن الضال كانت تعني التخلّص من اللَّه، كما أنّ الحرّيّة أو ما يسمّى بالديمقرطيّة المطلوبة في بلادنا الآن من البعض تعني التخلّص من اللَّه ومن القانون. الحرّيّة الحقيقيّة هي الحرّيّة التي تحت سلطان اللَّه: »فإن حرّركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارًا« (يوحنّا 8: 36). الحرّيّة الحقيقيّة موجودة فقط في اللَّه عبر ابنه يسوع المسيح. قال أحد الساسة المشهورين، عندما عرضت عليه رئاسة محكمة العدل: »حرّيّة الإنسان لا تأتي إلاّ عبر إنجيل الربّ يسوع المسيح«.
المطلوب اليوم إن كنتم تتطلّعون إلى الحرّيّة، فأعلموا أنّ الحرّيّة التي يريدها اللَّه لنا ليست كالحرّيّة التي نراها الآن في بلداننا العربيّة في وضعها المغدور، إنّها الحرّيّة التي في المسيح يسوع التي تدعونا إلى أن نعترف بأننا أخطأنا بحقّ اللَّه وبحقّ أوطاننا وبحقّ المجتمع.
ندعوكم اليوم إلى حياة الحرّيّة الحقّ البعيدة عن الفخاخ والأشراك التي عاشها الابن الضالّ. ندعوكم اليوم إلى الحرّيّة التي لا تعزلك بل تذكّرك بأنّك تنتمي إلى اللَّه.
ندعوكم إلى الحرّيّة التي لا تخرجكم، بل تذكّركم بأنّكم جميعًا تحت القانون متساوون.
ندعوكم لا إلى حرّيّة شخصانيّة بل إلى حرّيّة في المسيح يسوع.
ندعوكم لا إلى حرّيّة مزيّفة وغاشّة.
ندعوكم لا إلى فوضى شعواء.
ندعوكم إلى حرّيّة مسؤولة تجاه اللَّه، تجاه الوطن، تجاه المجتمع وتجاه البيئة.l