2016

2- شؤون كنسيّة – ما بعد لقاء كريت – المطران سابا (إسبر) – العدد الخامس سنة 2016

 

ما بعد لقاء كريت

المطران سابا إسبر

 

 

حريّ بنا،  وقد انتهى مجمع كريت إلى ما انتهى إليه، أن نتأمّل بهدوء ذاك الحدث الذي أُريد له أن يكون كبيرًا، وكُرِّست له عقود من العمل الدؤوب، واشترك في التحضير له منذ ستّينيّات القرن الماضي خيرة مطارنة الكنيسة الأرثوذكسيّة ولاهوتيّيها في العالم. لكنّه لم يأت بالثمار المرجوّة، لا بل كان انعقاده سببًا لبروز الاختلافات الكامنة، أو التي كانت تظهر، خجولةً، بين الحين والآخر، هنا وثمّة.

تغيّبت، عن المجمع، أربع كنائس بمن فيها الكنيسة الروسيّة، التـي تشكّل عدديًّا الكتلة البشريّة الضخمة في العالم الأرثوذكسيّ. وجاءت في الأسباب، التي جعلت بعض الكنائس تقاطع المجمع، تبريرات تخصّ كنيسة دون غيرها، غير أنّ القاسم المشترك، عند جميع الكنائس التي قاطعت، وعند بعضٍ من التي شاركت، تمثَّل في عدم الارتياح للسرعة التي ميّزت المسيـرة الأخيرة إلى المجمع في السنتين الأخيرتين، وعدم دراسة أوراق العمل بالشكل الكافي والمطلوب. هذا السبب، ولعلّه الأهمّ، طبع الوجدان الأرثوذكسيّ العامّ في جميع الكنائس.

أمّا المبرّر، الذي دفع بكنيستنا الأنطاكيّة إلى مقاطعة المجمع، فيعود في الأصل إلى عدم حلّ المشكلة، التي أوجدتها الكنيسة المقدسيّة، بخصوص إقامة رئيس أساقفة على أرض أنطاكيّة تاريخيًّا، أعني قطر. فعدم تراجع الكنيسة المقدسيّة عن تعدّيها هذا، واستمرارها في الادّعاء بحقّها في ما يُسمّى اليوم بالخليج العربيّ والسعوديّة واليمن، لا بل وبجزء من سورية، أدّى بالكنيسة الأنطاكيّة إلى قطع الشركة معها. فكانت الحجّة، التي استندت إليها الكنيسة الأنطاكيّة، في عدم مشاركتها في المجمع المذكور، قائمة على عدم تحقيق الوحدة الكنسيّة في ظلّ تعدٍّ لم يُزَل، وانقطاع الشركة بين الكنيستين. فكيف وأين تتمثّل الوحدة، في اجتماع كنسيّ، إن لم يكن في الإفخارستيّا؟ هل من المقبول أن نشترك في جلسات نقاش ولا نشترك في القدّاس الإلهيّ؟ ليست المجامع الكنسيّة مؤتمرات عالميّة، بل لقاء بالروح القدس يتحقّق بالإفخارستيّا الواحدة.

في الواقع، إنّ الألم الكبير والموجِع، الذي ظهر في عدم قدرة الكنائس الشقيقة، وعلى رأسها كنيسة القسطنطينيّة، على حلّ هذا  التعدّي، يتجاوز قضيّة مشكلة بين كنيستين، إلى قضيّة الكنيسة الجامعة على الصعيد الأرثوذكسيّ. فالواقع الأرثوذكسيّ يشهد نشوب أزمات تنشأ، بين كنيستين أو أكثر، هنا وهناك، وفي أيّ وقت. والأسئلة التي تُطرَح في هذا الحقل عديدة، مثل: لماذا تنشأ أزمات كهذه؟ ولماذا تتعدّى كنيسة على أخرى شقيقة، والقوانين التي تنظّم العلاقات بينهما موجودة وصريحة؟ ومَن المُخَّول بالتدخّل من أجل إيجاد الحلول؟ ولماذا لا يمارس دوره كما يجب؟ الخلاف الوحيد الذي يمكن أن يحدث بين فريقين أرثوذكسيّين هو الإيمانيّ. فإذا لم يكن من خلاف إيمانيّ، فلماذا يوجد؟ ومن يقف وراءه؟ هل الأمر مجرّد أطماع شخصيّة، بتوسيع نفوذ هذه الكنيسة أو تلك، أو أنّ »وراء الأكمة ما وراءها«؟

بالطبع، لدى الكنيسة الأنطاكيّة حجج أخرى ذات طابع إكليزيولوجيّ، لا تقلّ أهمّيّة، توافق آباء المجمع الأنطاكيّ عليها، وطلبوا، بسببها أيضًا، اعتبار مجمع كريت اجتماعًا تمهيديًّا، ضمن المسيرة إلى المجمع الكبير.   

الكثيرون ممّن كانوا يتخوّفون من المجمع الكبير، ويدعون إلى مقاطعته فرحوا، لأنّهم قرأوا، في عدم اكتماله، نجاة للإيمان المستقيم وللكنيسة التي تحفظه. والكثيرون ممّن أيّدوه غضبوا وكتمـوا غضبهم. أمّا السؤال الأساس عندي، فلا يكمن في نجاحه أو فشله، بقدر ما هو في الأسباب التي أدّت إلى هذه النتيجة أو تلك. وهي أسباب لا تُفرِح أيّ مؤمن مخلص وأمين، سواء كان من المؤيّدين لانعقاد المجمع، أو من الداعين إلى مقاطعته.

ظهَّر اجتماع كريت المشاكل المزمنة الموجودة في الكنيسة الأرثوذكسيّة، والتي يعود معظمها إلى الواقع التاريخيّ المأساويّ، بشريًّا، الذي عاشته جميع الكنائس الأرثوذكسيّة، كلّ واحدة بتمايز خاصّ بها. لقد أرخى هذا التاريخ، بظلاله القاتمة، على النفوس والسياسات، على حدّ سواء. فالخوف من مواجهة العالم الحاليّ،  وما يحمله من تحدّيات عظيمة وكثيرة، واضحٌ عند الكثيرين. ثمّة خوف وعقدة موجودان في العالم الأرثوذكسيّ، بسبب انكفاء الكنائس التاريخيّة على نفسها، تحت سيف الاضطهاد، المتنوّعة أشكاله، الذي لحق بها، ما منعها من مواكبة التطوّر البشريّ في القرون الأخيرة، والتعاطي معه ندّيًّا، بطريقة إيجابيّة نقديّة وبنّاءة، تواجه أخطاءه، وانحرافاته، دونما خوف أو هروب. عدم متابعة التحدّيات الحديثة، والاكتفاء باعتبارها أخطارًا تمسّ الكنيسة في جوهرها، وتاليًا تجب مقاطعتها، دفع ببعضهم إلى الانكفاء خوفًا، وإهمال الشهادة المسيحيّة في قلب المجتمع، وببعضهم الآخر إلى الانجراف وراء الحداثة ومقتضياتها، دونما تمييز وفحص لها على ضوء التراث الكنسيّ الأصيل والحيّ.

بات الخوف على الإيمان المستقيم ونقاوته، يشكّل، عند بعضهم، هاجسًا مَرَضيًّا، يدفع تيّارات برمّتها إلى التلذّذ بالأمانة التي تحفظها الكنيسة الأرثوذكسيّة، والإعراض عن كلّ مختلف عنها. هؤلاء يرون، في كلّ محاولة، استهدافًا للأرثوذكسيّة، وسبيلاً إلى استيعابها من الكنائس: من التي قاطعت المجمع  ومن التي شاركت فيه.

ربّما يكون موقفهم صحيحًا وواقعيًّا، ولهم قراءتهم وحججهم وبراهينهم، وليسوا أناسًًا صغارًا، فبينهم كبار جدًّا في اللاهوت والروحانيّة والقداسة. لكنّ القضيّة لا تكمن في صحّة موقفهم بقدر ما تكمن في أنّهم باكتفائهم بدور المعارضة، وعدم تقديم البديل المطلوب، باتوا ينشرون نَفَسًا سلبيًّا، يشكّل رهابًا حقيقيًّا، قد يعيق الكنيسة ويمنعها من مواجهة الأخطار المحيقة بها، فتخطئ في قراءة الحاضر وأحداثه، بشكل يجعلها عاجزة عن مواجهته.

هل يكفي، على سبيل المثال لا الحصر، رفض وثيقة الزواج من إحدى الكنائس، لأنّها تتكلّم على الزواج المختلط، لكي يتوقّف الأرثوذكسيّون عن إتمامه؟ ثمّة تحوّل في المجتمعات، عمومًا، نحو المجتمع التعدّديّ، إذ إنّ مظاهره وتأثيراته باتت تطلّ برأسها على المجتمعات التقليديّة، التي تتبّنى أجيالها الجديدة الثقافة الحديثة. فهل عدم مواجهة الكنيسة ظاهرة الزواج المختلط، وعدم التعاطي معها، يكفيان حتّى تحفظ الإيمان المستقيم في نفوس أبنائها؟ ثمّة أسئلة لا بدّ منها، وهوّة تتعاظم، بين اللاهوت الصافي النقيّ وتطبيقه في الحياة. كيف يكون لاهوتنا مُعاشًا؟ وكيف تقتفي الكنيسة لاهوتها الرفيع لتعكسه في حياتها على الأرض، وتستمدّ منه مبادئها وسياستها الرعويّة الخدميّة؟ أليست الكنيسة، بالروح القدس الحاضر فيها، هي المدعوّة إلى معالجة هذه القضايا؟ أو ليس هذا هو حقل الرعاية الكنسيّة؟

هل يكفي رفض الحوار مع الآخر المختلف عنّا، جملة وتفصيلاً، لحفظ الإيمان عند الأرثوذكسيّين؟ وهؤلاء يعيشون اليوم في مجتمعات تعدّديّة، ويترافقون مع غير الأرثوذكس في العمل والمدرسة والسكن والكثير من مرافق المجتمع المختلفة؟!! استهداف الكنيسة الأرثوذكسيّة يجب أن يدفعها إلى العمل على الصعيدين: الداخليّ والخارجيّ وفي الوقت عينه.

كذلك العقدة النفسيّة المستحكِمة بالكثير من الأرثوذكسيّين، باعتبار الغرب النموذج الذي يجب الاقتداء به، باتت تدفع ببعضهم إلى التشبّه بما عند الكنائس الأخرى، دونما تدقيق أو تمحيص. فيستجلبون أنظمة وقوانين وطرائق في التعاطي والبحث عن الحلول، وتقاليد غريبة عن الوجدان الأرثوذكسيّ، لمجرّد أنّها تبدو لهم ناجحة في الكنائس الأخرى. تحت ضغط نهضة الكنيسة، والإصلاح المنشود، ومواجهة العالم المعاصِر، والتفاعل معه، يذهب بعضهم بعيدًا، إلى حدّ التفريط بالتقليد الكنسيّ الأرثوذكسيّ الحيّ، وإلى إبداله بمكتسبات دهريّة تبدو برّاقة وواعدة، لكنّها، في الحقيقة، تُفقد الكنيسة جوهرها وتستعيض عنه بكيان دهريّ، وتقضي على الرسالة المسيحيّة الأساس: أعني تأليه الإنسان وخلاصه.

بدا هذه المنحى جليًّا في سنوات التحضير الأخيرة للمجمع الكبير. فالتشابه كان كبيرًا بين النهج الذي اتُّبع في التحضير للمجمع، والتحضير للمؤتمرات العالميّة، الذي ساد بعد أربعينيّات القرن العشرين. وتدلّى هذا النهج بدءًا من اعتماد مبدأ »التمثيل«، إلى الأوراق المراد مخاطبة العالم بواسطتها، والإدلاء بالشهادة التي تحملها الأرثوذكسيّة له، مرورًا بطريقة الاجتماع والمصاريف الباهظة التي تكلّفها... فمنطلقات ورقة »العلاقة مع العالم المسيحيّ«، على سبيل المثال، تنحو منحى لغة مجلس الكنائس العالميّ، أكثر ممّا تتّخذ اللاهوت الأرثوذكسيّ ورؤيته للعالم، منطلقًا لها. وورقة »شهادة الكنيسة الأرثوذكسيّة في العالم المعاصر« تُشعرك وكأنّها بيان للأمم المتّّحدة، مطَعَّم بنكهة من اللاهوت المسيحيّ، أكثر من كونها مشروعًا أرثوذكسيًّا يحتضن آلام البشريّة بحنوّ، في محاولة لرفعها إلى عالم أفضل، وتقديم التعزية والتشديد والطاقة الروحيّة، التي تسهم في تخفيف الأوجاع، وتطلق صوتًا حقّانيًّا.

من المفيد ملاحظة الجيّد والناجح عند غيرنا للاستفادة منه، ولكن من الضارّ الانبهار به، واتّخاذه مثالاً لا بدّ منه، والسعي إلى استنساخه. الحَسَن عند غيرنا يجب أن يدفعنا إلى استلهام الروح القدس والتفتيش، على ضوئه، عن كيفيّة تحقيقه بالشكل الذي يوافق إيماننا ورؤيتنا للإنسان وللعالم. أن تزرع شتلة في غير تربتها، فأنتَ تميتها.   

ضغط الصراع بين المنحيين على الكنائس عبر لجانها التحضيريّة لتأتي الأوراق بالشكل الذي يحوز موافقة جميع الكنائس، هذا ما جعل الأوراق المجمعيّة تَثْبُت على الحدّ الأدنى من التوافق، وهو ما شكّل خيبة عظيمة عند الكثيرين من الذين كانوا ينتظرون كلمة حياة وحقّ وصوتًا فريدًا، يُسمِع العالم ما في الكنيسة الأرثوذكسيّة من حقّ وإمكانات، تسهم في تقديم حلول ناجعة لحضارته الآيلة إلى التفتّت والفناء.

قد تتحمّل جهات كنسيّة أسباب فشل المجمع أكثر من غيرها. لكنّ الواقع الأليم الذي تعيشه الكنائس الأرثوذكسيّة يقول إنّ المشكلة الداخليّة فيها باتت في حاجة إلى سعيٍ جدّيّ بغية حلّها، وإلاّ فإنّها تنذر بالشقاق والتفتّت. أما آن لنا أن نتجاوز وعورة التاريخ ونبدأ بتعلّم ثقافة »العمل معًا«، التي لطالما نادى بها آباء كبار؟!

كذلك على الذين يعتقدون أنّهم القائمون على الأمانة المسلَّمة للقدّيسين ألاّ يُسمعوا صوتهم بشكل سلبيّ فقط، أعني بانتقاد المساعي المبذولة والقرارات الصادرة وتسليط الضوء على الأخطاء والأخطار والانحراف، بقدر تقديمهم اقتراحات ونصائح ورؤًى تفيد في نجاح الجهود الكنسيّة المبذولة. لا يمكن لهؤلاء ألاّ يوسّّخوا أيديهم بوحل هذا العالم، ويكفّروا كلّ من يسعى إلى الشهادة للمسيح في قلب العالم الساقط.

أمّا الذين يعتبرون أنفسهم رسل المسيح في العالم الدهريّ المعاصر، فعليهم التحلّي بروح التواضع، وقبول الآخر المخالف توجّهاتهم المتنوّعة، بروح المحبّة والحوار المصغي. احترام  الرأي الآخر يفيد في ترميم الثغرات الموجودة في كلّ عمل، ويسهم في تكميله. على المنخرطين في الشهادة، هؤلاء، عدم الاستعجال في تحقيق برامجهم  لئلاّ يقعوا في خطر تقزيم كنيسة المسيح، بتحقيق مشيئاتهم، وعدم إفساح المجال لربّ الكنيسة لكي يُظهر مشيئته وبركته لعملهم. ليست الكنيسة مزرعة خاصّة بأحد. إنّها جسد المسيح، وهو وحده رأسها.

تكمن فرادة الكنيسة الأرثوذكسية في أنّها قائمة على التناغم والانسجام (السينرجيا) الإلهيّ-البشريّ. فلا تحكمها القوانين الوضعيّة بالمطلق، بقدر ما تؤدّي دورًا في تهذيب الحياة المسيحيّة ودعم روح المؤازرة والتعاضد فيها.

قضيّة المجمعيّة والشورى، الرئاسة الكنسيّة وخدمة المواهب، الرهبنة والإكليروس والمؤمنين، البطريرك والمطارنة، الأسقف والكهنة، الشعب المؤمن والمجامع الكنسيّة، اللاهوت البرّاق والواقع البشريّ، العلمانيّ والإكليريكيّ....، إنّما هي مجرّد أمثلة على واقع كنيسة فقيرة بالمفهوم الأرضيّ، لكنّها ثريّة جدًّا بحضور الروح القدس الفاعل في قدّيسيها الأحياء، وهذا هو سرّ بقائها وفعلها حتّى اليوم، رغم موجات الاضطهاد الفظيعة، التي تعرّضت لها وما تزال، والأثمان الباهظة التي دفعتها وما تزال، ممّا لم  يتحمّله غيرها.

هذا يجب أن يدفع بأبنائها إلى تقديرها، والغبّ من ينابيع روحيّتها العميق الغور، وإلى تطهير أنفسهم حتّى تليق بسكنى الروح القدس. آنذاك يسيّرها اللَّه بواسطة أبنائها الأطهار والقدّيسيـن. الذيـن يعرفـون كيـف يحقّقون التفاعل الحيّ الخلاّق بين كلّ الاتّجاهات الموجودة، دومًا،  في كلّ تجمّع بشريّ.l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search