كلام في الكلمة
التجسّد، إضاءات شرقيّة
نقولا أبو مراد
لا أدري ما إذا كان ثمّة كلامٌ أبلغُ تعبيرًا عن معنى الميلاد والتجسّد من ترنيمة العيد عندنا، التي توجز، في رأيي، تقليدًا لاهوتيًّا غنيًّا متأصّلاً في الكتاب الإلهيّ، شرقيًّا بلا حدود. ببراعة شعريّة خالصة، وقراءة ذكيّة للمواضع الكتابيّة ذات الصلة، كتب الشاعر، »ميلادك أيّها المسيح إلهنا، قد أشرق نور المعرفة للعالم، لأنّ الساجدين للكواكب، به تعلّموا من الكوكب السجودَ لك يا شمس العدل، وأن يعرفوا أنّك من مشارق العلوّ أتيت، يا ربّ المجد لك«. فليُسمح لي أن أحوّر، بعض الشيء، العنوان موضوع هذا المقال، بحيث لن أعالج التجسّد في اللاهوت الشرقيّ كما يمكن أن يتوقّع، بل، وكما توحي الترنيمة المذكورة، مشرقيّة مجيء الربّ، سيّما وعندي قناعة كبيرة، أنّ ذلك البعد هو الذي غذّى لاهوت التجسّد عند آباء الكنيسة ولاهوتيّيها وسكبه شعرًا في ترانيم العيد.
لا أنكر أنّ حلول عيد الميلاد محلّ عيد »الشمس التي لا تقهر« (sol invictus) الرومانيّ ترك آثارًا هنا وثمّة في خدمة العيد والتقاليد المرتبطة بالاحتفال به، غير أنّي أرى في الكتاب المقدّس المؤثّر الأقوى في تشكيل هذا اللاهوت. ميلاد المسيح، والشرق، والنور، والمعرفة، عناصر متلازمة في هذا التقليد، تحمل، في نظري، أبعاد التجسّد.
ما قصّة الشرق والنور والمعرفة في الكتاب؟ نقرأ في حزقيال 43: ١- ٩ ما يأتي: »ثمّ ذهب بي إلى الباب، الباب المتّجه نحو الشرق. وإذا بمجد إله إسرائيل جاء من طريق الشرق وصوته كصوت مياه كثيرة، والأرض أضاءت من مجده فجاء مجد الربّ إلى البيت من طريق الباب المتّجه نحو الشرق. فحملني روح وأتى بي إلى الدار الداخليّة، وإذا بمجد الربّ قد ملأ البيت. وسمعته يكلّمني من البيت. وكان رجل واقفًا عندي. وقال لي يا ابن آدم، هذا مكان كرسيّ ومكان باطن قدميّ، حيث أسكن في وسط بني إسرائيل إلى الأبد«. يرد هذا المقطع في حزقيال في الجزء الذي يتحدّث عن الهيكل الذي يقيمه الربّ لنفسه ويجعله وسطَ الأرض، وقبلةَ الناس، بعد أن كان نقض الهيكل الذي بني له لما حصل فيه من رجاسات يأتي على ذكرها حزقيال في الجزء الأوّل من كتابه، قد خصّ منها، في الفصل 8، أشدّها، تلك التي آلت إلى حكمه بسبي الشعب إلى أرض البابليّين. نقرأ: »فجاء بي إلى دار بيت الربّ الداخليّة وإذا عند باب هيكل الربّ والمذبح خمسة وعشرون رجلاً ظهورهم نحو هيكل الربّ ووجوههم نحو الشرق وهم ساجدون للشمس نحو الشرق. وقال لي أرأيت يا ابن آدم؟ أقليل لبيت يهوذا الرجاساتُ التي عملوها هنا. لأنّهم ملأوا الأرض ظلمًا ويعودون لإغاظتي وها هم يقرّبون الغصن إلى أنفهم. فأنا أيضًا أعامل بالغضب. لا تشفق عيني ولا أعفو. وإن صرخوا في أذنيّ بصوت عالٍ لا أسمعهم«.
بين هذين المقطعين، بين توسّّل الشمس في الشرق، ومجيء الربّ ليملأ مجدُه الأرضَ من الشرق، ينبسط كلام حزقيال. فإذا كان مجيء مجد الربّ من الشرق يملأ الأرض وينيرها، ويجعل من حضور الربّ خلاصًا للجميع، بحيث يغدو كلّ مكان مكانه، وهو وسطَ الكلّ، فإنّ توسّّل الشمس والسجود لها هو الذي أظلم الأرض وجعلها خربة، مشرّدة مطرودة لا نصير لها. ما هذا الأمر الذي يسمّيه حزقيال رجاسة عظمى وظلمًا إلاّ رفض للربّ، إدارة الظهر له. في السجود للشمس، في هيكل الربّ، في الموضع الذي منه يأتي الربّ، إقرار وقح بأنّ الحياة إنّما هي من سواه، كمن يقيم آخر مكان أبيه الذي ولده وربّاه وعلّمه ويقيته ويدبّر شؤونه، ويجعله وليّ نعمته. وإنّ في الشمس في هذا إغراءً كبيرًا. فالكلّ يعلم أن لا حياة من دونها. غير أنّ حزقيال يعرف أنّ السجود للشمس إنّما يخفي أمرًا آخر، أشدّ خطورة، وهو الإقرار بسيادة بابل على الساجدين. بابل الواقعة في الشرق والعابدة الأولى للشمس. بابل العظمى، فاتحة البلدان تغري الناس ببهائها وعظمتها، بسحر حضارتها. تحاول في حزقيال أن تطغى بجبروتها على الربّ. عبدة الربّ يهملونه، يتطلّعون إلى الشرق، إلى بابل، علّه يتساقـط عليهـم بعـض من بهـائـها. ينفيـهم الربّ إليـها. تلتهمهم بابل. يستحيلون عظامًا يابسة. ذلك أنّ الأبّهة لا تحيي إلى الأبد. يفهمنا حزقيال أنّ روح الربّ وحده قادر على أن يحيي، وأنّ حضوره المستديم ضمانةٌ للوجود، وأنّه لا بد من أن يكون الربّ دومًا هناك. هذا هو اسم موضع حضوره، »الربّ هنـاك«. يغدو المشرق، في حزقيال، مكانًا يأتي منه الربّ وحده، ولا أحد سواه. يقول كتابنا: »ثمّ أرجعني إلى طريق باب المقدس الخارجيّ المتّجه للمشرق وهو مغلق. فقال لي الربّ هذا الباب يكون مغلقًا لا يفتح ولا يدخل منه إنسـانٌ لأنّ الـربّ إلـه إسرائيـل دخـل منـه فيكـون مغلقًا. الرئيس الرئيس هـو يجـلس فيـه ليـأكل خـبزًا أمـام الـربّ« (44: 1- 3).
لن يعجب قارئ حزقيال من هذا الكلام، ذلك لأنّه سبق وقرأ في بداية التكوين أنّ الربّ دعا النور ليكون فكان، ورأى أنّه حسن، وكانت الأيّام وكانت الحياة، قبل أن يُخلَق النيّرُ الأكبر لحكم النهار والنيّرُ الأصغر لحكم الليل في اليوم الرابع. تقلّل رواية التكوين من أهمّية الشمس، فلا تذكرها بالاسم. ولا تترك من مواصفاتها سوى تحديد النهار. تصير مجرّد آلة توقيت، فيما الحياة يصنعها الربّ ويثبّتها، وتكون إلى الأبد.
هذا القسم من كتاب التكوين، الذي يبدأ برفعة الربّ وبالإقرار بأنّه المحيي، ينتهي في الفصل 11 بذكرٍ لبابل، مدينةً بناها الناس لمجدهم وحفظ اسمهم. لا تدوم. تنتهي قصّتها في بضع آيات. ويؤول الكلام إلى مَن يخرج منها ملتمسًا وجه الربّ وحده ومشيئته. يغدو إبراهيم مطرح حضور اللَّه، مترحّلا، دونما سند إنسانيّ.
التوتّر إذًَا بين أن تكون للشمس، لبابل، لمفاخر إنسانيّة، لدنيونيّة بائدة، لتفاهة حضارات زائلة، أو أن تكون للربّ. كيف يغدو الربّ شرقك، ونور حياتك؟ هذا هو السؤال الذي يطرحه الكتاب.
ولئن كان الجواب على هذا السؤال مبعثرًا في أجزاء العهد القديم، إلاّ أنّه يأتي بأشدّ وضوح في العهد الجديد، وخصوصًا في مطلع يوحنّا، الذي فيه يستند الكاتب، بتأكيد كبير، على مطلع التكوين. مفسّرًا بداية التكوين، »في البدء خلق اللَّه السماوات والأرض...«، كتب يوحنّا، »في البدء كان الكلمة«. وبعد أن يصوّر الكلمة فاعلاً في الخلق يقول، »فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس، والنور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه«. يفهمنا يوحنّا أنّ النور الذي به أضاء اللَّه العالم في التكوين، لم يكن بريقًا كبريق الشمس، بل إنما هو كلمته. »والكلمة صار جسدًا وحلّ بيننا ورأينا مجده كما لوحيد من الآب مملوءًا نعمة وحقًّا« (يوحنّا 1: 14). لن أفلسف الكلمة هنا. يقيني أنّ يوحنّا لم يرد الإلماح إلى لوغوس فلاسفة الإغريق وصولاً إلى فيلون الإسكندريّ وأفلوطين. كلمة يوحنّا إنّما هي إنجيل المسيح الذي صلب ودفن وقام لخلاص العالم أجمعين، »لأنّه هكذا أحبّ اللَّه العالم حتى إنّه بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كلّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة« (يوحنّا 3: 16). هو الكلمة عينها التي قال فيها إشعياء، »كذلك تكون كلمتي التي تخرج من فمي، لا ترجع إليّ فارغةً، بل تتمّ ما شئت، وتنجح فيما أرسلتها له« (إشعياء 55: 11). في الأدب النبويّ، لا شيء يضمن نجاح الكلمة، إلاّ الكلمة عينها آتية إلى العالم، وفاعلة فعلها بنفسها. وجاء في الحكمة، »وبينما كان صمت هادئ، يخيّم على كلّ شيء، وكان الليل في منتصف مسيره السريع، هجمت كلمتك القديرة من السماء، من العروش الملكية، كالمحارب العنيف، في وسط الأرض الملعونة. كانت تحمل قضاءك المحتوم، كسيف مرهف. فوقفت، وملأت كلّ المكان موتًا، وكان رأسها في السماء وقدماها على الأرض« (حكمة ١٨: ١٤- ١٦). تظهر، في هذا القول، أهمّ ميّزات الكلمة الإلهيّة، كما يقدّمها الكتاب الإلهيّ، وكما تبدو في الأسفار النبويّة: أي هجوميّتها، ورفعتها، وسلطانها، ودينونتها. تلك هي الكلمة الأخرويّة الديّانة، التي لها الرفعة، ولها القرار. إيماني واعتقادي الراسخان أنّ هذه الكلمة تجسّدت في الأسفار النبويّة قبل أن تتجسّد في يسوع المسيح، كلمة اللَّه الآتي إلى العالم ليخلّص الخطأة، وينير للجالسين في الظلمة وظلال الموت. تجسّدُ الكلمة إذًا، في يوحنّا، سكناها بين الناس، كسكنى اللَّه في خيمته في الخروج، حين أعلن مجده خلاصًا لمن يتّبعه، ودينونة للمتمرّدين. في يوحنّا، يسوع، كلمة اللَّه، لا يعلّم بقدر ما يحكم، يفصل. يصير صليبه المرفوع حدًّا بين المؤمن وغير المؤمن. فيكون خير وشرّ، معرفة وجهل، نور وظلمة، خلاص وبرّانية قاتلة. في الفصل التاسع يحوّل يسوع الأعمى إلى مبصر، والمبصرين إلى عميان. يصير هو مصدر النور. يشعّ لمَن يريد أن يراه، أمّا رافضوه فتدركهم الظلمة، »لدينونة أتيت أنا إلى هذا العالم حتى يبصر الذين لا يبصرون، ويعمى الذين يبصرون« (يوحنّا 9: 39).
في رواية متى لميلاد يسوع صدًى لحزقيال، »ولمَّا وُلِدَ يَسوعُ في بَيتَ لَحْمِ اليَهودِيَّةِ، على عَهْدِ المَلِكِ هِيرودُسَ، جاءَ إلى أُورُشليمَ مَجوسّ مِنَ المَشرِقِ، وقالوا أينَ هوَ المَولودُ، مَلِكُ اليَهودِ رَأَيْنا نَجْمَهُ في المَشْرِقِ، فَجِئْنا لِنَسْجُدَ لَه« (متى 2: 1-2). في رواية زيارة المجوس، يريد متى أن يصوّر يسوع وكأنّه ربّ حزقيال الآتي من الباب الشرقيّ ليملأ الأرض مجدًا. المفارقة أنّ هيرودس وكلّ أورشليم مع كهنتها وكتبتها، الذين يفترض أن يعرفوا مجيء المسيح، يقابلون في متى مَن كانوا في باب الهيكل الشرقيّ يسجدون للشمس، فيما الساجدون الحقيقيّون للشمس أتوا من المشرق ليسجدوا للمولود. يضطرب هيرودس وكلّ أورشليم معه، فيما المجوس يفرحون. ينوي هيرودس قتله، أمّا المجوس فيأتونه الهدايا، ذهبًا ولبانًا ومرًّا، يقرّون بملكيته وربوبيّته المتجليّتين على الصليب وفي الموت. ينظر هيرودس نحو بابل الحضارة، يقلّد روما، يخضع للسلطان الأرضيّ، يحوّل أورشليم إلى مدينة رومانية، يبني هيكلاً عظيمًا في كلّ شيء، فارغًا من حضور اللَّه، كما يقول يسوع »جعلتم بيت أبي مغارة للصوص«، فيما تأتي بابل كلّها، بملوكها، وتخضع للمولود في بيت لحم. بيت لحم تعني في العبريّة بيت الخبز. الخبز الذي سيأكله الرئيس في باب الشرق كما جاء في حزقيال. تصبح بيت لحم هي الشرق، قبلة لمن يريد أن يؤمن، مطـرح انبـلاج الكلـمة. في إنجيل متّى لا يؤمن بيسوع إلاّ ثلاثة، المجوس والكنعانية وقائد المائة، وكلّهم من خارج أورشليم. بتناغم مع حزقيال يصير مجيء المجوس من بابل إلى بيـت لحـم للسجود ليسوع دينونة لعاصمة يهوذا. لن تـلاقي تلك المديـنــة ربّهـا ورئيس الرئيس في باب الشرق، كما دعا حزقيال. لن تقيمه في وسطها. دينونتها أنّ محجّتها، بابل، تابت إلى يسوع، وقَبِلَته شمسًا لها حقيقيًّا، فيما هي ارتدّت عنه مفتونة بمدنيّتها. سجدت بابل العظيمة، خليلة النجـوم وفاضحة أسرارها، للشمس الحقيقيّة، شمس البرّ، لـذاك الـذي علّم في العظة على الجبل أن تسامح وتحبّ وتغـفـر وتنطلـق إلى كمـال اللَّه، وأمر في عظة أخرى أن أطعموا الجائع واسقوا العطشان وآووا اليتيم وانصروا الفقير وعودوا المريض. العظمة تنحني أمام الحقارة، والسيادة أمام مَن كان على صورة العبد. تلك هي رسالة التجسّد والميلاد، جاءت كلمات على لسان الكلمة، ألا جعلها اللَّه لنا جميعًا إضاءات شرقيّة.l