المجمع الأرثوذكسيّ-٥
عوائق مستجدّة
جورج غندور
تردّدت كثيرًا قبل أن أقطع هذه السلسة من المقالات التي تستعرض العمل التحضيريّ للمجمع الأرثوذكسيّ الكبير بهذا المقال حول العوائق المستجدّة. ولكنّ الظروف الحاليّة التي يمرّ بها العالم الأرثوذكسيّ قد أملت عليّ بأن أشارك القرّاء بما يعترض المرحلة التحضيريّة الأخيرة للمجمع من تحدّيات خطيرة ومقلقة، علّنا جميعًا نعي ما يتربّص بكنيستنا اليوم من أخطار، ونكثّف صلواتنا من أجل وحدة العالم الأرثوذكسيّ وسلامه، ومن أجل أن يبعد اللَّه عنه خطر الانقسامات والانشقاقات التي يمكن أن يحدثها انعقاد المجمع الكبير في التاريخ المحدّد، على عجل وبمن حضر من الكنائس...
أكتب هذا بشيء من الخيبة، بسبب ما آل إليه الواقع الأرثوذكسيّ اليوم، حيث يشعر من ينخرط في العمل الأرثوذكسيّ المشترك بأنّ المسيح يغيّب في كنيسته كلّ يوم وتعلى مكانه أصنام من صنع البشر، محورها السلطة والمال والنفوذ والمصالح الدنيويّة... فعملنا الأرثوذكسيّ المشترك يفضح الانفصام الفظيع بين تعليمنا وممارساتنا: فنحن نؤكّد أنّنا كنائس رسوليّة ولكنّنا لا نكفّ عن »التقاتل« على بلدان الانتشار بصفتها ملحقات لهذه أو تلك من البطريركيّات، ونأبى أن نعترف بنضوجها وبأنّها قد أصبحت كنائس مستقلّة قادرة أن تدير نفسها بنفسها وفقًا لما يمليه التقليد والقوانين الكنسيّة التي تقول بضرورة وجود أسقف واحد في المدينة الواحدة. ونحن نختلف مع الإخوة الكاثوليك حول »السلطة البابويّة«، ولكنّنا نسعى بالممارسة إلى إرساء بابويّة أرثوذكسيّة أين منها بابويّة المجمع الفاتيكانيّ الأوّل!؟ وترانا نتكلّم عن التعاون والتنسيق في ما بيننا بينما يشهد العالم الأرثوذكسيّ انقطاعًا للغة الحوار وانعدامًا واضحًا لفعاليّة أيّ عمل مشترك يقول الوحدة أو على الأقلّ يؤمن تنظيمًا مقبولاً للاختلاف بوجهات النظر.
أسوق ما تقدّم، بعد أشهر صعبة أخذ فيها التحضير للمجمع الأرثوذكسيّ الكبير يترنّح لعدّة أسباب منها:
١- انتهاء أعمال اللجنة التحضيريّة الخاصّة للمجمع الكبير من دون التوصّل إلى اتّفاق بشأن البنود المدرجة على جدول أعمال المجمع.
٢- محاولة تجاوز مبدأ إجماع الكنائس المستقلّة والسعي لعقد المجمع الكبير بتوافق من حضر من الكنائس.
٣- الضبـابيّة التي ما زالت تخيّم على كيفيّة معالجة مسألة المجالس الأسقفيّة في المهاجر قبل انعقاد المجمع الكبير.
٤- والتأزّم في العلاقات بين عدد من الكنائس الأرثوذكسيّة.
١- في ما يتعلق بأعمال اللجنة
التحضيريّة الخاصّة
لقد قرّر اجتماع رؤساء الكنائس الأرثوذكسيّة المنعقد في اسطنبول في آذار 2014 إنشاء هذه اللجنة لتقوم خلال الفترة الممتدّة ما بين أيلول ٢٠١٤ وفصح العام ٢٠١٥ بعقد اجتماعات مكثّفة لمراجعة الوثائق التي أقرّها المؤتمر التمهيديّ الثالث المنعقد في العام 1986 حول »الأرثوذكسية والحركة المسكونية«، »علاقة الكنيسة الأرثوذكسيّة بالعالم المسيحيّ« و»مساهمة الكنائس الأرثوذكسيّة المحلّيّة في تحقيق المبادئ المسيحيّة حول السلام والحرّيّة والأُخوّة والمحبّة بين الشعوب، وفي إزالة التمييز العرقيّ«، والإشراف على تصحيح الوثائق التي أُقرّت في المؤتمرين التمهيديّين الثاني والثالث والتي تتناول »مسألة التقويم المشترك« و»موانع الزواج« و»مواءمة القواعد المتعـلّقـة بالصـوم«. واستكمــال البحث في الموضوعين غير المتـوافق عليهـما من جــدول أعمـال المجمع الكبير، أي »الاستقلال الذاتيّ وكيفيّة إعلانه« و»لوائح الذبتيخا«.
على الرغم من الطابع الاستثنائيّ لهذه اللجنة ومن عنصر الفاعليّة الذي كان يفترض أن يطبع أعمالها، فإنّها لم تجتمع بشكل مكثّف خلال الفترة المحدّدة ولم تتمكّن من تحقيق النتائج المرجوّة من إنشائها. إذ التأمت في ثلاث اجتماعات متباعدة، وبغياب أيّة منهجيّة متّفق عليها لسير أعمالها، ووسط اختلاف في تفسير التفويض المعطى لها من قبل رؤساء الكنائس. وقد قاد هذا الواقع إلى إخفاق اللجنة في تهيئة الأرضيّة لعقد المؤتمر التمهيديّ الخامس الذي كان من المقرّر أن ينعقد في حزيران المنصرم كمرحلة أخيرة قبل انعقاد المجمع الكبير.
وفي المحصّلة، فإنّ اللجنة التحضيريّة الخاصّة لم تتمكّن من الانتهاء من مراجعة الوثيقة حول »علاقة الكنيسة الأرثوذكسيّة بالعالم المسيحيّ« ولاسيّما القسم المتعلّق منها بالحوار مع الكنائس الأخرى. كما أنّها لم تتمكّن من الوصول إلى أيّ اتّفاق في ما يتعلّق بالوثيقتين حول »مسألة التقويم المشترك« و»موانع الزواج«. وقد اقتصر عملها على الإشراف على النصّ »مواءمة القواعد المتعلّقة بالصوم« و»مساهمة الكنائس الأرثوذكسيّة المحلّيّة في تحقيق المبادئ المسيحيّة حول السلام والحرّيّة والأُخوّة والمحبّة بين الشعـوب، وفـي إزالـة التمييـز العرقيّ« الذي لم يحظ بموافقة مجمـع الكنيسـة الروسيّة في دورته الأخيرة المنعقدة في تمّوز 2015. أمّا موضوعا »الاستقلال الذاتيّ وكيفيّة إعـلانه« و»لـوائح الذبتيخا«، فلم تقم اللجنة بمناقشتهما بسبب ضيق الوقت.
ولعلّ ما تقدّم، يدلّ على أنّ جميع المواضيع، المدرجة على جدول أعمال المجمع الكبير ما زالت ضمن الطور الإعـداديّ، وهـي مـا زالـت تتطلّب عملاً مكثّفًا قبل رفعها إلى المؤتمر التمهيديّ الخامس ليتم إقرارها وإحالتها إلى المجمع الكبير. وتاليًا، ولأنّ اجتماع رؤساء الكنائس الأرثوذكسيّة لم يلحظ في قراره إمكانيّة فشل اللجنة التحضيـريّة الخــاصّة مـن تحقيق الغاية التي أنشئت من أجلها، فإنّه يمكن الاستنتاج بأنّ العمل التحضيريّ للمجمع الكبير يعرف حاليًا تعثّرًا حقيقيًّا بانتظار قرار لرؤساء الكنائس الأرثوذكسيّة يحدّد الوجهة المستقبليّة.
٢- مبدأ إجماع الكنائس
الأرثوذكسيّة المستقلّة.
أرسى لقاء الفاتوبيذي المنعقد في العام 1930، والذي أطلق العمل التحضيريّ الرسميّ للمجمع الأرثوذكسيّ الكبير، مبدأً أساسيًّا بالنسبة إلى العمل الأرثوذكسيّ المشترك وهو ضرورة مشاركة جميع الكنائس الأرثوذكسيّة المستقلّة في الاجتماعات كافّة وفقًا لمبدأ »التساوي في التمثيل بين الكنائس المحلّيّة جميعها في الاجتماعات التحضيريّة وفي المجمع العتيد«. وقد جاء هذا القرار لتجنيب الكنيسة الأرثوذكسيّة الانقسامات كتلك التي عرفها العالم الأرثوذكسيّ بعد القمّة الأرثوذكسيّة العامّة التي انعقدت في اسطنبول في العام 1923. التزم البطريرك المسكونيّ أثيناغوراس، طيلة فترة ولايته، بهذه القاعدة الذهبيّة، وعمل جاهدًا على المحافظة على الإجماع الأرثوذكسيّ كضمان لوحدة العالم الأرثوذكسيّ في ظل ظروف تاريخيّة صعبة ومعقّدة. وقد جاء النظام الداخليّ للمؤتمرات الأرثوذكسيّة التمهيديّة الذي أجمعت عليه الكنائس الأرثوذكسيّة المستقلّة في العام 1986 ليكرّس »الممارسة الأرثوذكسيّة التقليديّة ويقوننها خطّيًّا«، لمّا نصّت المادّة الثانية منه بأنّ البطريرك المسكونيّ يدعو إلى المؤتمر التمهيديّ بعد »موافقة رؤساء الكنائس الأرثوذكسيّة المحلّيّة، من خلال رسائل بطريركيّة يوجّهها إلى جميع رؤساء الكنائس الأرثوذكسيّة المستقلّة وذات الإدارة الذاتيّة«، والمادّة 15 بأنّه »تقوم اللجنة الأرثوذكسيّة التحضيريّة بالعمل على تأمين التوافق الأرثوذكسيّ على كلّ موضوع مدرج على جدول أعمال المؤتمر الأرثوذكسيّ التالي، وعلى إعداد نصّ مشترك حول كلّ موضوع«. ولمّا اعتبرت المادّة 16 من النظام المذكور بأنّه »يتمّ اعتماد جميع النصوص بشأن المواضيع المدرجة على جدول أعمال المؤتمرات الأرثوذكسيّة التمهيديّة بالإجماع«.
يتّضح ممّا تقدّم أنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة قد ميّزت بين »الإجماع« و»التوافق« بشكل واضح في العمل التحضيريّ للمجمع الكبير. إذّ إنّ النصوص التي تعدّ على مستوى اللجان التحضيريّة للمجمع يمكن أن ترفع إلى المؤتمرات التمهيديّة في ظلّ غياب إجماع الكنائس عليها، ولكن في حال تأمّن التوافق المبدئيّ عليها (أي في حال لم تعترض كنيسة ما بشكل صريح). أمّا الوثائق الصادرة عن المؤتمرات التمهيديّة، فيجب أن تحظى بإجماع جميع الكنائس المستقلّة، التي يجب أن يوافق رؤساؤها على دعوة المؤتمر التمهيديّ ويجب أن تشارك جميعها في أعمال المؤتمر لكي يعتبر التئامه قانونيًّا.
أمام تعثّر العمل التحضيريّ للمجمع، أخذت تبرز بعض المعطيات التي تشير إلى أنّ قداسة البطريرك المسكونيّ لن يلتزم بهذه »الممارسة الأرثوذكسيّة التقليديّة« المذكورة أعلاه. وبأنّه يميل إلى عقد المجمع الكبير بمن حضر وبالاستناد إلى مبدأ »التوافق« بين الكنائس التي تشارك وليس مبدأ »إجماع جميع الكنائس المستقلّة«. وهو يستند في موقفه هذا إلى قرار رؤساء الكنائس الأرثوذكسيّة في آذار 2014 الذي ينصّ : »أمّا في ما يتعلّق بالمجمع الأرثوذكسيّ الكبير المقدّس الذي سيُدعى في المستقبل: يتمّ اتّخاذ القرارات خلال المجمع وفي الفترة التحضيريّة بالتوافق؛ يرأس المجمع البطريرك المسكونيّ. يجلس على يمينه ويساره إخوته رؤساء الكنائس الأرثوذكسيّة المستقلّة؛ تُشارك كلّ كنيسة مستقلّة برئيسها وبعدد من الأساقفة لا يزيد عن الأربعة والعشرين مطرانًا. أمّا الكنائس المستقلّة التي يقلّ عدد أساقفتها عن الأربعة والعشرين، فتُشارك برئيسها وجميع أساقفتها. تتمتّع كلّ كنيسة أرثوذكسيّة مستقلّة بصوت واحد«.
يذكر أنّ عددًا من الكنائس الأرثوذكسيّة المستقلّة لا توافـق علـى تجـاوز »الممارسة الأرثوذكسيّة التقليديّة« لما فـي الأمـر من خطـر على الوحدة الأرثوذكسيّة، وهي تعتبر أنّ المجمع الكبير لا يمكن أن ينعقد إلاّ في حال شاركت جميـع الكنائس الأرثوذكسيّة المستقلّة في أعماله، وذلك وفــقًا لــنـظــام داخـــليّ للمجمـع واضـح ودقيــق توافــق عليه جميع الكنائس المستقلّة قبل دعوة المجمع إلى الانعقاد.
٣- مسألة المجالس الأسقفيّة
في المهاجر
اعتبر المؤتمر التمهيديّ الرابع أنّ إنشاء المجالس الأسقفيّة هو قرار مرحليّ يهدف إلى منح الكنائس فترة زمنيّة لكي »تُهيِّئ الأرضيّة من أجل حلّ قانونيّ سليم لمسألة الانتشار، على ألاّ تتعدّى مرحلة تهيئة الأرضيّة تاريخ انعقاد المجمع الأرثوذكسيّ الكبير، بحيث يقوم هذا الأخير بإيجاد حلّ قانونيّ لمسألة الانتشار«.
اقترحت بعض الكنائس، بما فيها الكنيسة الأنطاكيّة، أن تتمّ الدعوة إلى عقد مؤتمر يضمّ مطارنة الانتشار، لبحث هذه المسـألة وإيجاد الحلول قبل انعقاد المجمع. ولكن، يبدو أنّ البطريرك المسكوني يفضّل أن يتمّ بحث هذه المسألة مباشرة من قبل المجمع كبير، مع ما يرافق هذا الأمر من مخاطر، في حال لم تتوصّل الكنائس إلى أيّ اتّفاق بشأنه.
٤- التأزّم في العلاقات
بين عدد من الكنائس الأرثوذكسيّة
يشهد العالم الأرثوذكسيّ، حالة من التأزّم في العلاقات بين البطريركيّة المسكونيّة وكنيسة التشيك والسلوفاك، دفعت رئيس الكنيسة التشيكيّة في حديث مسجّل إلى انتقاد البطريرك المسكونيّ ومطارنة البطريركيّة المسكونيّة بلغة قاسية، محمّلهم مسؤوليّة الحالة الانشقاقيّة التي تعرفها كنيسة تشيكوسلوفاكيا. بالإضافة إلى هذا الأمر، تبدي البطريركيّة الروسيّة انزعاجها من وجود مطرانين تابعين للبطريركيّة المسكونيّة في أوكرانيا وهي كنيسة ذات إدارة ذاتيّة تابعة لبطريركيّة موسكو.
يضاف إلى هذا الأمر مسألة قطع الشركة بين كنيسة أنطاكية وكنيسة أورشليم، بعد تمادي هذه الأخيرة بتعدّيها على حدود البطريركيّة الأنطاكية وإقامتها لرئيس أساقفة على قطر، في ظل انعدام أيّ مبادرة أرثوذكسيّة جادّة لحلّ هذه الأزمة وفقًا للقواعد التي توصّلت إليها وساطة الخارجيّة اليونانيّة في حزيران 2014 وبرعاية من البطريركيّة المسكونيّة التي اعترفت بحق أنطاكية القانونيّ وطلبت عند نشوب الأزمة من البطريرك الأورشليميّ تعليق رسامة رئيس أساقفة قطر من أجل حلّ النزاع.
هل يهدف الاستعجال في عقد المجمع في ظل هذه الظروف إلى »توكيد سلطة القسطنطينيّة وبابويّتها الجديدة على العالم الأرثوذكسيّ من خلال السيطرة على المهاجر والاستئثار بحقّ منح الاستقلال والإدارة الذاتيتين للكنائس المحـلّيّة« كما حـذّر الأب القدّيس يوستينوس (بوبوفيتش) في العام 1976؟ أم هل تتعلّم البطريركيّة المسكونيّة من المراجعـة الـتــي تقـوم بها البابويّة لمفهوم السلطة في ظلّ البابا الحاليّ، »فتتغيّر هي وتغيِّر ذهنيّتها وتنظيمها الإداريّ لكي تكون على مستوى تحدّيات العالم الأرثوذكسيّ«، كما ناشدها المطران جورج (خضر) يومًا.
مهما يكن، فإنّ هذه العوائق المستجّدة يجب أن تذكّرنا بأن انعقاد المجمع الكبير يجب أن يكون فرصة للكنيسة لكي تشهد كما كتب يومًا أوليفيه كليمان »للقيامة التي تقيمنا، وللروح الذي يحيينا، وللثالوث نبع كلّ محبّة وكلّ كيان شخصيّ. عليه أن يُظهر الكنيسة، على ضعفاتها، المطرح الذي ينقل إلينا قوّة القيامة، حيث نُدعى إلى العيش في الشركة الثالوثيّة، ونكتشف، بنعمة الروح القدس، دعوَتَنا الشخصيّة وحرّيّة الإبداع فينا«. فهل من يسمع؟l