الجسد المتجلّي
د. جورج معلولي
يكتب القدّيس يوحنّا السلّميّ عن الجسد في مقالته الخامسة عشرة من سلّم الفضائل: »هو لي حليف وعدوّ، نصير وخصم... إذا راعيته هاجمني وإذا أرهقته ضعفت معه. كيف أكره من تدفعني الطبيعة إلى أن أحبّه؟ كيف أنعتق ممّن أنا مرتبط به إلى الدهر؟ كيف أفرّط بمن سيشاركني القيامة؟«. ثمّ يستدرك مكتشفًا أنّه في شخصه منقسم على نفسه: »ما هو السرّ في أمري؟ كيف أنا عدوّ ذاتي وصديقها في آن؟«. رغم موقف القدّيس المرتبك من الجسد، فهو لا يتبنّى فلسفة ازدواجيّة للكيان البشريّ، إذ يعترف بأنّه في طبيعته الكاملة خليقة اللَّه وبأنّه قائم بجسده في اليوم الأخير. ولكنّه يختبر تشتّت قوى نفسه في ضعف آدم ومعطوبيّته كأنّ الوحدة الداخليّة مشروع دائم، وسعي من مساعي الخلاص، وينعكس هذا التشتّت على علاقته بجسده.
يضرب هذا الارتباك بعض جذوره في تراب اللغة ومفاهيمها التي استعملها المسيحيّون. فمن ناحية، يرى الكتاب المقدّس، في عهده القديم، إلى الإنسان كوحدة بسيطة غير منقسمة. من جهة ثانية، تنقل اللغة الفلسفيّة اليونانيّة نظرة أخرى للإنسان. »النفس هي الإنسان« يكتب مثلاً أفلاطون؛ وفي داخل النفس وحده الجزء الأعلى (الذهن أو »النوس«) يتمتّع بالخلود. فالجسد وتحرّكاته عند أفلاطون خارج عن طبيعة الإنسان فهو قبر الروح. لذلك وجب على الإنسان التحرّر من هذا القبر. أرسطو والفلاسفة الرواقيّون أقلّ ازدواجيّة من أفلاطون. أمّا أفلوطين، فهو يبقي على الموقف التشاؤميّ تجاه الجسد إذ يخجل أن يكون موجودًا في جسد، فلم يكن يسمح لأحد بأن يرسمه وكان يرفض أن يفصح عن تاريخ مولده، لأنّ تاريخ دخول النفس في الجسد تاريخ لعنة.
حافظ العهد الجديد على رؤية العهد القديم الموحّدة للإنسان. وظهرت كرامة الطبيعة البشريّة في كامل طاقاتها في الحدث المركزيّ للإيمان المسيحيّ: »الكلمة صار جسدًا« (أو بشرًا) (يوحنّا ١: ١٤)، ليخلّص البشر. وكتب يوحنّا في رسالته الأولى، ضدّ من ينتقص من واقعيّة التجسّد: »نكتب إليكم عمّا كان من البدء بخصوص كلمة الحياة: عمّا سمعناه، ورأيناه بعيوننا، وشاهدناه، ولمسناه بأيدينا«. ولد الكلمة من إمرأة (غلاطية 4 : 4) واختبر الجوع والعطش والتعب (متّى 21 : 18؛ ومرقس 4 : 38؛ ويوحنّا 4 : 6 و 19 : 28). وتجلّى على الجبل بالجسد وسطع وجهه كالشمس وصلب وقام بالجسد: »ألمسوني وتحقّقوا، فإنّ الشبح ليس له لحمٌ وعظامٌ كما ترون لي« (لوقا ٢٤: ٣٩). فالبشرة محور الخلاص، كما يقول ترتوليان. لم يكن بالإمكان أن يخلّص الإنسان بكامله إن لم يتّخذ الربّ الإنسان بكامله (أوريجنّس). أمّا الصراع الذي يظهر في رسائل بولس، فهو ليس بين أجزاء متضاربة من كيان الإنسان، كما يمكن للغة أن توحي بل هو بين مواقف متضاربة للإنسان الواحد، أي الانقياد للخطيئة والانقياد إلى الروح القدس. ويذهب بولس الرسول إلى مقابلة جسد المسيح الممتدّ بالإفخارستيّا بجسم الإنسان ذي الأعضاء الكثيرة والوظائف المتنوّعة.
ظهرت،في القرن الثاني، جماعات مسيحيّة تدين الزواج، وتحرّم على المعتمدين العلاقات الزوجيّة. وبالغ الغنوصيّون في هذه الرؤية »لأنّ الجسد سيّئ بطبيعته«، والخلاص للنفس وحدها بحسب إيمانهم. ضدّ هذه المواقف كتب القدّيس ايريناوس أسقف ليون أنّ الإنسان بكامله مخلوق على صورة اللَّه موضحًا أنّ »البشرة يجب أن تخترقها قوّة الروح القدس حتّى تصبح روحيّة بشركتها مع الروح القدس. فكما أنّ البشرة معرّضة للفساد هكذا أيضًا تستطيع أن تبلغ عدم الفساد«.
نكتشف تنوّع شهادات المسيحيّين الأوائل إذا قابلنا رؤية أوريجنّس بسلفه المباشر إكليمنضس الإسكندريّ. يستعير أوريجنّس تعابير أفلاطونيّة، ليتكلّم على الإنسان »كنفس تستخدم جسدًا«، كأنّ الجسد أداة. غير أنّ الشرّ عنده ليس كامنًا في الجسد، بل في الاستخدام السيّئ للإرادة الحرّة. أمّا إكليمنضس، فهو أكثر إيجابيّة في نظرته إلى الجسد إذ يربط صورة اللَّه في الإنسان بالجسد ووظائفه: »الإنسان صورة اللَّه لأنّنا ونحن بشر نشارك مع اللَّه في ولادة كائنات بشريّة جديدة«. وفي موضع آخر يقول »عند المقدّسين حتّى الزرع هو مقدّس«.
أمّا القدّيس مكسيموس المعترف، فهو يقدّم رغم استخدامه مفردات من الفلسفة اليونانيّة، نظرة موحّدة إلى الكيان البشريّ. فالإنسان كون صغير ومختبر يحتوي كلّ عناصر الكون بطريقة كاملة. وهو مدعوّ إلى أن يكون في نفسه وسيطًا بين كلّ الأقطاب: السماء والأرض، البعيد والقريب، الأعلى والأدنى، والرجل والمرأة. من الواضح لنا أنّنا لا نستطيع أن نؤدّي دور الوسيط إن كنا في أنفسنا منقسمين. رفض الجسد هو رفض واضح لدور الوساطة هذا وكسر لوحدة الطبيعة البشريّة يأخذها إلى الخراب.
الحياة المتمحورة حول المسيح تؤدّي حتمًا إلى روحانيّة متمحورة حول الشخص. يبدو هذا في بعض قصص آباء الصحراء: »لاقى راهب مصادفة على الطريق بعض الراهبات، فتنحّى جانبًا. فقالت له الأمّ الرئيسة: لو كنت راهبًا كاملاً لما كنت لاحظت أنّنا نساء«، أي لكنت نفذت إلى رؤيتنا أشخاصًا. يقدّم القدّيس سمعان اللاهوتيّ الجديد نظرة مماثلة في وصفه سمعان الستوديتيّ معلّمه الذي كان يعتبر أنّ كلّ أعضائه، كما أعضاء جسد أيّ إنسان آخر، هي في عينيه أعضاء المسيح، أي أنّ نظرته الشخصانيّة إلى نفسه وإلى الآخرين مصدرها علاقته بالمسيح الذي يعطيه الوحدة الداخليّة. وفي هذا يتبع سمعان اللاهوتيّ الجديد منطق القدّيس إيريناوس والقدّيس مكسيموس المعترف إلى حدّه الأقصى في نظرتهما إلى شخص الإنسان.
يعكس الجسد حالة الإنسان المتجلّي. فالقلب الفرح يبهج الوجه (أمثال 15 : 13). لذلك »إذا اتّحد الإنسان كلّيًّا بحبّ اللَّه بدا حينئذ بهاء نفسه في جسده كأنّه مرآة. هكذا مجّد موسى معاين اللَّه« (السلم إلى اللَّه الدرجة 30). هكذا تجلّى وجه القدّيس سيرافيم في حديثه مع موتوفيلوف وكأنّه »في وسط الشمس في سطوع أكثر قوّة من شعاع الظهر«، يضيء الثلج حواليهما على بعد أمتار عدّة. خبرات مماثلة تكشف واقعيّة تجلّي الجسد بالنور الإلهيّ، كما عند القدّيس سيرج من رادونيج والقدّيس صيصويّ، في ساعة موتهما، والأنبا بامبو الذي مجّده اللَّه حتّى سطوع وجهه كالبرق.
في حياة الكنيسة وأسرارها حيث يحقّق الروح القدس تأوين صلب المسيح وقيامته، يتشبّع الجسد من شعاع الملكوت. فـ»المادّة تتلقّى في نفسها قوّة اللَّه« كما يقول القدّيس غريغوريوس النيصصيّ. وفي نسك محبّة اللَّه والإخوة يتحوّل الإنسان في كامل طاقاته وجهًا أو عينًا بحسب تعبير مكاريوس الكبير. والوجه نافذة الجسد المتجلّي. l
المراجع :
Kallistos Ware. Tout ce qui vit est saint. Le sel de la terre. Cerf
Kallistos Ware. THE UNITY OF THE HUMAN PERSON: THE BODY-SOUL RELATIONSHIP IN ORTHODOX THEOLOGY. Syndesmos text database : http://syndesmostemporary.blogspot.com/