2015

3. حين يهرب العيد: تأمّلات في حركة الشبيبة اليوم - أسعد إلياس قطّان – العدد الرابع سنة 2015

 

حين يهرب العيد: تأمّلات في حركة الشبيبة اليوم- ٢

أسعد قطّان

 

»إنّ ربّنا يسوع المسيح دعا نفسه الحقّ. ولم بدعُ نفسه العادة»

 

لو تأسّست الحركة اليوم، ماذا كان سيشغل المؤسّّسين؟ سؤال طرحناه في العدد الماضي محاولين تلمّس معالم الثابت والمتحوّل في الحركة. من البدهيّ أنّ السؤال عن الثابت والمتحوّل لا يخصّ الحركة فحسب، بل هو، بمعنى ما، السؤال الأهمّ في حياتنا الكنسيّة، ولا سيّما أنّنا كنيسة تأتي من التراث، ويجنح أعضاؤها إلى أن يضفوا على الأخير صفة عدم التغيّر. لا شكّ في أنّ المجتمعات التي نعيش فيها أضحت أكثر تغيّرًا من ذي قبل. هذا لا يعني، طبعًا، أنّ المجتمعات القديمة كانت ثابتة. المؤرّخ يستطيع أن يرصد التبدّل في كلّ مكان وزمان. ولكنّ الأكيد، أيضًا، أنّ عمليّة التبدّل هذه كانت أكثر بطئًا. عالمنا الحاضر يتغيّر بسرعة مذهلة، حتّى إنّ بعضنا يشعر بالغربة في هذا الخضمّ. فنراه يلجأ إلى الثوابت، أو يجدّ في اختراعها، طمعًا في أن تصبح الحياة أقلّ توتّرًا. من الضروريّ أن نعترف بحضور هذه الأزمة في حياتنا اليوميّة، وبأنّ وجودنا الكنسيّ أنّى له أن ينفصل عن معطيات هذه الحياة. ومن ثمّ، يصبح البحث عن الثابت في المعطى الكنسيّ، لدى بعضهم، ضربًا من الترياق في مواجهة العالم المتبدّل. فعلى قدر ما تتّسع رقعة التغيّر في هذا العالم، ننصرف إلى توسيع مساحة ما نعتبره ثابتًا ونهائيًّا في المعطى الكنسيّ، وخصوصًا في التراث. والحقّ أنّه، من وجهة نظر سيكولوجيّة، ليس أسهل من إضفاء صفة الثابت على التراث، لكونه يصدر من الماضي. والمجتمعات في معظمها، بما فيها الكنسيّة، تميل إلى تقديس ماضيها. ويعزّز عمليّة التقديس هذه أنّ ما ترسّّب في الذاكرة له صفة البقاء، أي القدرة على مقارعة جريان الزمن والانتصار عليه. وهو لولا ذلك، لما بقي حاضرًا في الذاكرة. إنّ استمرار الأشياء الماضية في ذاكرتنا الجامعيّة غالبًا ما يحرّضنا على اعتبارها نهائيّةً وغير متبدّلة، لمجرّد أنّها أثبتت قدرتها على مغالبة الزمن، وكأنّنا نحاول أبديّةً على مستوى هذا العالم رغم علمنا بأنّنا كائنات صائرة إلى الزوال. ولعلّ هذا ما دفع أحدهم إلى القول إنّ النسيان، بالنسبة إلى الجماعات البشريّة، ليس أقلّ أهمّيّة من التذكّر.

كان لا بدّ من هذه الملاحظة الطويلة نسبيًّا لتبيان الآليّة السيكولوجيّة التي تتحكّم في جنوحنا إلى توسيع رقعة الثابت والإفراط في التعلّق به. فلنعد، الآن، إلى السؤال المحوريّ: لو تأسّّست الحركة اليوم، ماذا كان سيشغل المؤسّّسين؟ كان سيشغلهم طبعًا، كما شغلهم قديمًا، أن يلتصق الشباب بكأس يسوع، وأن يمعنوا في فهم إنجيله. والإنجيل، هنا، ليس الكتاب المقدّس من حيث هو كتاب مخطوط أو مطبوع، بل النبأ السارّ كما نقله الرسل المغبوطون إلى الجماعات المسيحيّة الأولى. عن هذا الإنجيل يكتب الرسول بولس: »وأعرّفكم، أيّها الإخوة، بالإنجيل الذي بشّرتكم به، وقبلتموه، وتقومون فيه، وبه أيضًا تخلصون (...) فإنّي سلّمتُ إليكم في الأوّل ما قبلته أنا أيضًا أنّ المسيح مات من أجل خطايانا بحسب الكتب، وأنّه دُفن، وأنّه قام في اليوم الثالث بحسب الكتب، وأنّه ظهر لصفا ثمّ للاثني عشر« (١كورنثوس 15: ١- ٥). طبعًا، هذا »الإنجيل«، أي بشرى موت الربّ ودفنه وقيامته وظهوره، له امتدادات في نصوص العهد الجديد قاطبةً. وهو، بحسب المقاربة المسيحيّة، يحقّق الكتب اليهوديّة المقدّسة بكلّ ما تنطوي عليه من قصص وشرائع وصور ورموز ونبوءات، ما حمل الرسول على ترداد عبارة «»بحسب الكتب« مرّتين. وللإنجيل أيضًا أصداء في التراث الكنسيّ، في تحديدات المجامع، في ما خطّه الآباء والمعلّمون، في الليتورجيا والعبادات، في الأيقونة والفنّ عمومًا، وفي القوانين التي سنّتها الكنيسة، لتصون بنيها من الانحراف، أو لتقوّم انحرافهم. من هذا كلّه نحن مطالَبون بأن نغترف. والاغتراف ليس عمليّةً آليّةً، ولا هو تبعيّة نقليّة عمياء. الاغتراف فيه وعي، وفيه فهم. نُقبل على المعطى التراثيّ لنعيه، ونفهمه، ونعيش منه. الفهم والعيش متلازمان، إذ ليس مسموحًا بأن نعظّم الواحد على حساب الآخر، أو أن نضحّي بالواحد في سبيل الآخر. في مسيرة العيش المقرون بالفهم هذه، نميّز، في ديناميّة جماعيّة منفتحة على الحوار والأخذ والردّ والنقد والمساءلة والتصويب، نميّز ما ينسجم مع الإنجيل، أي موت الربّ وقيامته، وما لا ينسجم. فندرك ما ينبغي استبعاده من حياتنا الكنسيّة والحركيّة، أو ما ليس ضروريًّا أن نلتزم به جميعنا، حتّى ولو ركن إليه بعضنا، ووجد فيه طريقةً من طرائق عيش الإنجيل.

من الجدير بهذا المسعى أن يترافق مع كثير من المحبّة والصدق. فالمحبّة والصدق صنوان، وليسا نقيضين، كما يحلو لبعضهم أن يصوّر، فيذبح الصدقَ باسم المحبّة، أو يحوّله إلى كبرياء لخلوّه منها. وكلاهما متأصّل في الإنجيل، أي موت يسوع وقيامته. فلئن كان صليب يسوع هو اللحظة التي كشف فيها اللَّه محبّته غير المشروطة لخليقته، إلاّ أنّه، بالقوّة ذاتها، لحظة دينونة العالم، أي اللحظة التي أظهرت أنّ الذين صلبوا ربّ المجد كانوا يمعنون في الكذب، ويختبئون وراء ولاء مخاتل لقيصر، ليميتوا مَن فضح أحابيلهم وترّهاتهم وهشاشة منظومتهم الدينيّة والسياسيّة. إنّ تقهقر حياتنا الكنسيّة والحركيّة لا ينبع من افتقارنا إلى المعلّمين فحسب، أو من حاجتنا إلى برامج تربويّة جديدة، أو من عشرات العوامل الأخرى التي نتلهّى بها في مجالسنا. هذه كلّها مهمّة، ولا ريب. ولكنّ هذا التقهقر ينبع، أوّلاً، من عدم قدرتنا على إزواج هذين المبدئين، أي المحبّة والصدق، في ديناميّة حياتيّة واحدة.

لو تأسّّست الحركة اليوم، لكان سيشغل المؤسّّسين، بالتأكيد، أن تزدهر الحياة الكنسيّة عبر الاعتصام بكلمة الإنجيل والكأس المقدّسة في بركات المحبّة والصدق. هذه كانت الشعلة الأولى، وأنّى لها أن تتغيّر، أو تندثر. ولَكان شَغَلَهم أيضًا أن يُترجم ثابت الإنجيل، أي موت الربّ وقيامته، في تفاصيل حياتنا اليوميّة المتبدّلة. فالإنجيل والكأس يستدعيان الآخر، القريب والغريب، وهذا مشلوح في المجتمع الذي نعيش فيه. إخلاصًا للرؤية الحركيّة الأولى، إذًا، من غير المسموح أن نقيم في هذا المجتمع وكأنّنا كائنات هبطت عليه من كوكب آخر. هذا الوعي نجده في مبادئ الحركة الستّة، حيث يشدّد المؤسّّسون على نبذ الطائفيّة، والتقارب بين الكنائس، ويحضّون الأرثوذكس على نهضة ثقافيّة. والأكيد أنّ هذا الوعي تبلور وتعمّق، ولا سيّما مع تبدّل الظروف السياسيّة والمجتمعيّة في العالم العربيّ في أواخر الستّينات ومطلع السبعينات. ولقد عبّر الحركيّون عن هذا الوعي المتزايد عبر وثيقة حملت عنوان »التزام شؤون الأرض«، مؤكّدين أنّ عيش إنجيل يسوع، والعبّ من كأسه، ليسا أمرًا موجّهًا إلى داخل الجماعة الكنسيّة فحسب، بل إلى خارجها أيضًا. فالإنجيل، ولئن كان لا يملي علينا خياراتنا الفكريّة والمجتمعيّة والسياسيّة في جزيئيّاتها وتفاصيلها، إلاّ أنّه لا يعاش إلاّ في خضمّ الحراك المجتمعيّ والثقافيّ والسياسيّ.

للأسف، لم يتمكّن الحركيّون من توسيع الرؤية التي تعبّر عنها هذه الورقة المفصليّة في تاريخ الحركة وتعميقها. ولعلّ بعض السبب يكمن في اندلاع الحرب الأهليّة اللبنانيّة العام 1975. ولكنّ هذا لم يمنعهم من أن تكون لهم، في معترك هذه الحرب، مواقف نحتاج اليوم إلى استذكارها والتبصّر فيها، ونحن نحيا في قلب المأساة، أي الحرب في سورية، التي باتت تهدّد لا بتقسيم الوطن السوريّ وتشريد الكثير من أهله إلى غير رجعة فحسب، بل ربّما نجم عنها انهيار كلّ الإقليم الذي يشار إليها تقليديًّا بعبارة »سوريا الطبيعيّة« أو »بلاد الشام«، أي سورية ولبنان وفلسطين والأردنّ وبعض العراق. هذه المواقف لم تأتِ تعبيرًا لفظيًّا عن التزام شؤون الأرض فحسب، بل جهودًا حثيثةً قام بها الحركيّون منفردين، أو مع سواهم من المواطنين، كائنًا ما كان انتماؤهم الدينيّ، في سبيل الانتصار للمشرّد والفقير، ومحاربة الطائفيّة والمذهبيّة، والتصدّي للعنف باللاعنف، والتوفيق بين المتخاصمين، وذلك منعًا لأن يصبح الناس، على المستوى المحلّيّ، ضحيّة السياسات الكبرى التي تحاك في الغرف المظلمة. هذه المقاربة الملتزمة لشؤون الأرض في تفاصيلها تبيّن أنّ البشر ليسوا بالضرورة أسرى المعادلات السياسيّة الكبرى. ولا هم دُمًى تتحكّم فيها المؤامرات التي ينسجها بعضهم من الخارج، أو تلك التي نصدّق أنّ بعضهم ينسجها لإسرافنا في الترداد أنّ مصيرنا في هذا الشرق إن هو إلاّ إنتاج مؤامرة كبرى خطّط لها سوانا.

ولكنّ الحرب الأهليّة اللبنانيّة، وتشرذم الكثير من الحركيّين، والانقطاع المتعاظم للتواصل الفكريّ بين لبنان وسورية، والانصراف إلى مدّ الحركة أفقيًّا على حساب نوعيّة الشخصيّة الحركيّة، كلّ هذا استتبع لا خفوت روح التلمذة وتغليب الطابع المؤسّّسيّ فحسب، بل تراجع همّ الالتزام المجتمعيّ الذي أفصحت عنه وثيقة »التزام شؤون الأرض«. عزّز هذا التراجعَ سعيُنا إلى استيراد ضرب من ضروب الإرشاد الروحيّ يشدّد على البعد العموديّ للعلاقة مع اللَّه على حساب البعد الأفقيّ، أي العلاقة بالآخر، ويغالي في تأكيده ارتباطَ القرارات الفرديّة، كائنًا ما كان حجمها، بالأب الروحيّ، وذلك على حساب الحرّيّة الشخصيّة والمسؤوليّة أمام اللَّه والمجتمع. فتقهقر الإرشاد الروحيّ المتوازن الذي وضع مؤسّّسو الحركة مداميكه، ولا سيّما المطران جورج (خضر) والأب إلياس (مرقص)، وهيمن نمط يغلب عليه التوتّر والانكماش. وللحديث صلة...l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search