2015

8. تحقيق: دير وقدّيس - لولو صيبعة – العدد الأول سنة 2015

 

دير وقدّيس

لولو صيبعة

 

 

كثيرة هي الأديار في جبل آثوس المقدّس، وكثيرة هي العجائب التي أجراها اللَّه على يد خائفيه.

في هذا التقرير اخترنا قصّة دير هو الخامس في تسلسل أديرة الجبل. لم نقتصر على وصف معالم البناء، بل أوردنا سيرة الراهب القدّيس الذي جمع حول الربّ أخوة مؤمنين، فنقل إليهم صورة العبد المطيع والمتواضع والناسك والمتعبّد الخاشع.

من هنا كان العنوان »دير وقدّيس«، الدي عبره نتتبّع مراحل بناء الدير ومراحل حياة هذا القدّيس السالك في سُبل الربّ، حتّى القداسة.

 

دير ذيونيسيو

شُيّد دير ذيونيسيو على الشاطئ الجنوبيّ الغربيّ من شبه الجزيرة التي يقع عليها جبل آثوس، وذلك على ارتفاع ثمانين مترًا عن سطح البحر، بين ديري غريغوريو والقدّيس بولس، على صخرة ضيّقة وشديدة الانحدار. الوثائق القديمة تشير إلى هذا الدير تحت أسماء أخرى مثل نيابترا، أو دير كومنين الكبير أو كير ذيونيسيوس. وهو مكرّس لميلاد القدّيس يوحنّا المعمدان السابق والصابغ ربّنا يسوع المسيح، الذي تعيّد له الكنيسة الأرثوذكسيّة في الرابع والعشرين من حزيران.

في تبيكون أنطونيوس الذي يرقى إلى العام ١٣٩٤، احتلّ دير ذيونيسيو المرتبة التاسعة عشرة بين أديرة الجبل المقدّس، لكنّه منذ العام ١٥٧٤ هو في المرتبة الخامسة.

تأسّّس دير ذيونيسيو بين ١٣٧٠ و١٣٧٤ على يد القدّيس ذيونيسيوس الذي ينحدر من كوريسوس في كاستوريا، الذي بدأ عمله على نفقته الخاصّة رغم موارده القليلة، وقد ساعده على ذلك تلاميذه. وفي مرحلة لاحقة حصل على مساعدة ماليّة من أمبراطور تريبزوند ألكسيس الثالث كومنين، الذي قدّم لذيونيسيوس مبلغًا كبيرًا من المال، ومنحه في ما بعد مساعدة سنويّة حتّى لا تتوقّف الأعمال في الدير. كما أنّ متروبوليت تريبزوند ثيوذوسيوس شقيق ذيونيسيوس ورئيس دير فيلوثيو سابقًا، تدخّل وتوسّّط لدى الأمبراطور للغاية ذاتها. أمّا ألكسيس نظرًا إلى تعلّقة بهذا الدير، فطلب أن يسمّى بدير كومنين الكبير. لم تتوقّف الهبات بعد وفاة ألكسيس، بل تابع أباطرة القسطنطينيّة مساعدة الدير. وعلى أثر سقوط هذه المدينة في العام ١٤٥٣ قام أمراء مولدافيا بحماية الدير، وتوسيعه على الشكل الذي نراه اليوم، ولهذا يعتبر هؤلاء الحكّام من مؤسّّسي هذا الصرح الروحيّ المميّز. من بين هؤلاء الأمراء نذكر رادول وخليفته نياغوي باساراب الذي عمّر العام ١٥٢٠ البرج وقناة المياه. يرتفع البرج خمسة وعشرين مترًا، ويحمل في أعلاه اسم القدّيس يوحنّا المعمدان.

في العام ١٥٣٥ شبّ حريق أتى على معظم أرجاء الدير، وأعاد أمير مولدافيا جان بيتروس إعمار الجهة الشرقيّة من المطبخ حتّى السقف. في حين أنّ ألكسندر وزوجته روكساندر شيّدا الجهة المقابلة للبحر، أي سبع طبقات مع شرفاتها، كما ابتاعا الأراضي الخارجيّة لصالح الدير.

ومن المحسنين نذكر أيضًا الأخوين العازار وبويوس من بيافيستا، اللذين شيّدا الجناح الذي يفضي إلى الحديقة، والأسقف إرميا ١٧٩٧ (بلغراد) وسفير النمسا في القسطنطينيّة جان فرانغوبولس (١٨٠٠) اللذين أمضيا حياتهما في الدير وأوقفا له ممتلكاتهما. تعود مباني الدير إلى هذه الحقبة.

كنيسة الدير الأساسيّة التي تعرف بالكاثوليكون ترتفع في الباحة الضيّقة ومكرّسة للقدّيس يوحنّا المعمدان. أعيد بناؤها ورُسمت بين ١٥٣٧ و١٥٤٧ على نفقة الوجيه بيار، كما تشير إلى ذلك كتابة فوق مدخل الصحن الرئيس.

للكنيسة خمس قبب مكسوّة بالرصاص من الخارج، وتحوط بها الأبنية الأخرى وهذا ما يجعلها تفتقد الضوء.

 جداريّات الكنيسة نفّذت بين ١٥٤٦ و١٥٤٧ بريشة الرسّّام زورزيس، وتعتبر المثال الأوّل على نهج المدرسة الكريتيّة.

الأيقونسطاس من الخشب المحفور ويعود إلى القرن الثامن عشر، وهو مغطّى بأوراق الذهب الخالص. وعدا الأيقونات الحديثة نسبيًّا (١٨٠٥-١٨١٨) هناك أيقونات قديمة منها الشفاعة التي رسمها الفنّان الكريتيّ أوفروسينوس (١٥٤٢). في الكنيسة أيضًا أيقونات للسيّد والسيّدة ترقي إلى الأيقونسطاس القديم إضافة إلى صليب كبير. في الهيكل كما في الخورص نجد أيقونات قيّمة تاريخيًّا وفنّيًّا، أقدمها من القرن الرابع عشر. نشير أخيرًا إلى منحوتات من الخشب والعاج كالعرش الأسقفيّ والقرّايتين والطاولة المقدّسة المنجزة العام ١٦٨٥.

عدا هذه الكنيسة، في الدير كنائس صغيرة عديدة، أهمّها كنيسة العذراء المزيّنة بجداريّات رسمها مكاريوس العام ١٦١٥. في هذه الكنيسة أيقونة قديمة جدًّا لوالدة الإله؛ وهناك كنائس للقدّيسين نيفون، ونيقولاوس وجاورجيوس (١٦٠٩) والماقتي الفضّة ورؤساء الملائكة، مزيّنة بجداريّات من القرن السادس عشر أنجزها الراهبان دانيال ومركوريوس.

خارج الدير مناسك عدّة فيها كنائس صغيرة مكرّسة لوالدة الإله والقدّيسين أونوفوريوس ويعقوب أخي الربّ وديمتريوس والرسل الاثني عشر. والجداريّات بريشة الراهبين دانيال ومركوريوس، العام ١٦١٠. يتبع لدير ذيونيسيو أمطوش في كارييس، عاصمة الجبل، يقطنه ممثّل الدير.

إلى الجنوب الغربيّ من الكنيسة الكبرى يقوم مبنى يضمّ غرفة الطعام، التي تغطّي جدرانها رسوم تأثّرت بالمدرسة الكريتيّة، بخاصّة في الجهة الجنوبيّة. وأيضًا هنا الراهبان دانيال ومركوريوس رسما الجداريّات في العام ١٦٠٣. خارج غرفة الطعام جداريّات تمثّل مشاهد من رؤيا يوحنّا (١٥٦٨). وقرب هذه الغرفة الجرسيّة ذات الطبقات الثلاث وفوقها ساعة الدير القديمة. بسبب ضيق المكان الباحة غير موجودة تقريبًا، ولا وجود للأشجار.

كنوز الدير

في الدير مكتبة تحتوي كتبًا ومخطوطات نادرة يصل عددها إلى ٨٠٤ مخطوطًا و٢٧ لفافة. معظم المواضيع لاهوتيّة وليتورجيّة، وبعض هذه المخطوطات مزيّن بمنمنمات ورسوم جميلة بخاصّة الأرقام ٢ و١٣ و١٤ و٦١ و٦٥ و٥٦٧ و٥٨٨. المخطوط رقم ٥٨٧ إنجيل من القرن الحادي عشر فيه نحو ثمانين منمنمة رائعة وفريدة. أمّا المخطوط ٣٣، فهو إنجيل أيضًا يتميّز بغلاف من الخشب المحفور ومنمنمات جميلة.

تضمّ المكتبة أيضًا أكثر من خمسة آلاف كتاب مطبوع، من بينها كتب نادرة.

من كنوز الدير أيضًا قطعة من العاج تمثّل الصلب وهي من القرن العاشر، صليب هيلانة، أبيطافيون من القرن السادس عشر، ثياب كهنوتيّة مطرّزة بخيوط ذهبيّة، صلبان وأيقونات ورسائل من الأباطرة والأمراء.

كما يحفظ الرهبان رفات القدّيس نيفون، بطريرك القسطنطينيّة في مذخر فضّيّ قدّمه الوجيه نياغوي العام ١٥١٥.

من هو ذيونيسيوس الذي بنى الدير؟

أوّلاً، تعيّد له الكنيسة في الخامس والعشرين من حزيران. ولد في العام ١٣١٦ في قرية كوريسوس في مقاطعة كاستوريا(١)، في عائلة من الفلاّحين متوسّّطة الحال؛ وكان والداه مؤمنين وصالحـين. في طفـولتـه، حصّل تعليمًا بدائيًّا، لكنّ قلبه شغف بحبّ الربّ وبالفضيلة.

انتقل شقيقه ثيوذوسيوس إلى القسطنطينيّة حيث رسم شمّاسًًا ثمّ كاهنًا وكان تقيًّا ورعًا. غادر الأب ثيوذوسيوس المـدينـة وصخـبها وتوجّـه إلـى جبـل آثوس ليتعبّد للَّه؛ وفي وقت قليل أصبح الأب ثيوذوسيوس مثالاً للسلوك الرهبانيّ. وبعد وفاة رئيس الدير فيلوثيو الذي لجأ إليه الكاهن ثيوذوسيوس، انتخب الرهبان هذا الأخير ليرعى شؤون الدير.

عندما غادر ثيوذوسيوس منزل والديه كان ذيونيسيوس صغير السنّ، لكنّه كان سمع بجبل آثوس وأراد أن يغدو راهبًا. وعندما شبّ لحق بأخيه وصار راهبًا، فانكبّ على دراسة الكتب المقدّسة وعقائد الكنيسة. في سنّ الثلاثين رسم كاهنًا، صوّامًا ومصلّيًا وعاش فقيرًا زاهدًا لا يملك شيئًا.

رام الوحدة، فترك الدير وبدأ رحلته في جبل آثوس يبحث عن مأوى. في الجهة الجنوبيّة وجد كهفًا ونبع ماء، فسكن فيه وكان يقتات من الأعشاب والفاكهة البرّيّة. بقي ثلاث سنوات في هذا الكهف. وفي أحد الأيّام وصل إليه رجل ناسك وطلب منه أن يبني قلاّية قرب الكهف. وبعد أن ذاع صيت ذيونيسيوس تهافت على المكان نسّاك آخرون. وعندما ضاق المكان بالجميع، طلب منهم أن يبحثوا عن جهة أخرى، فتوجّهوا إلى الجزء الشماليّ من الجبل وبنوا قلاّية وكنيسة على اسم القدّيس يوحنّا المعمدان.

وكان ذيونيسيوس يأتي إليهم من حين إلى آخر ويحتفل معهم بالذبيحة الإلهيّة. وبما أنّ هذه المنطقة باردة جدًّا في الشتاء، انتقل الإخوة إلى الجهة الغربيّة، وزرعوا الكرمة وبنوا قاربًا يساعدهم على تأمين حوائجهم.

وفي أحد الأيّام شاهد ذيونيسيوس من بعيد ضوءًا ينبعث من موقع الدير الحاليّ، فتوجّه مع الرهبان الآخرين إلى المكان وتأكّدوا أنّ هذا النور إلهيّ. فبنوا برجًا خوفًا من القراصنة، مستعينين بتبرّعات من أشخاص كانوا يأتون إلى الأب ذيونيسيوس للاعتراف.

في هذا الوقت، أصبح شقيقه ثيوذوسيوس أسقفًا على تريبنروند. فتوجّه إليه ذيونيسيوس على أمل أن يتوسّّط له عند الأمبراطور ليساعده على بناء الدير، فوعده ثيوذوسيوس خيرًا. وذهب الأخوان إلى الأمبراطور الذي استمع بانتباه شديد إلى كلام الأب ذيونيسيوس، فأعجب به وقال: »حسنًا أيّها الأب الجليل سأساعدك وألبّي طلباتك كلّها وأرغب أن تذكروني دائمًا في صلواتكم مع كلّ أجدادي وأحفادي«. فأغدق الأمبراطور الهبات ومنح الدير مرسوم بناء نُشر العام ١٣٧٤.

عاد ذيونيسيوس إلى رهبنته، وبدأت ورشة البناء، فشيّد مع رهبانه كنيسة المعمدان وبعض القلالي والمستوصف وغرفة الطعام والأبنية الأخرى، كما جرّوا الماء من الجبل. انتهى العمل في الدير العام ١٣٨٠، وبقيت بعض المشاريع التي لم تنجز. ومرّة ثانية توجّه الأب ذيونيسيوس إلى تريبزوند ليلتمس مساعدة الأمبراطور مجدّدًا، ومرّة ثانية حصل الأب على مساعدة سخيّة. وعندما عاد إلى الدير وجده فارغًا إذ هاجمه القراصنة وأفرغوه من محتوياته وأسروا رهبانه. لم يأبه للأشياء المادّيّة إلاّ أنّه سعى إلى إيجاد إخوته الرهبان، فدفع فديتهم وأعادهم إلى الدير سالمين. وذهب من جديد إلى الأمبراطور مع عدد من الرهبان. لكن هذ المرّة لم يعد ذيونيسيوس إلى الدير، بل أسلم الروح في الخامس والعشرين من حزيران، بعد أن وضع ديره في عهدة الأمبراطور وشقيقه مطران تريبزوند. ودُفن جثمانه في كنيسة المسيح المخلّص العام ١٣٨٩.

 

وهكذا تنتهي قصّة الراهب المؤمن الذي أحبّ كنيسة المسيح، وتحلّى بالفضائل الجمّة، حتّى استحقّ لقب القدّىس. فاللَّهمّ استجب لنا بشفاعة هذا الراهب الذي سلك طريق العفّة والصلاة.l

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search