2013

1. الافتتاحيّة: مِثْلُ الأطفال - الأب إيليّا (متري) – العدد السادس سنة 2013

 

 

مِثْلُ الأطفال

الأب إيليا متري

 

ثمّة، في الأرض، مَن له »سلطة المحبّة« على قلوب الآخرين، جميع الآخرين، قريبين أو بعيدين. وثمّة مَن له سلطة أخذها من دنياه، ويعتمد على مَن كانت أخلاقهم لامعةً كالشمس، ليزدريهم.

دائمًا، كان الناس هكذا، أي هذا ليس بأمر جديد. والناس المزدرون سواهم يجرحك منهم مَن كان أخًا لم تعرف عنه أنّ أخوّته تحمل مدّة »انتهاء صلاحيّتها«، أو أنّه تعاطاها سلّمًا زمانًا رأى له نهاية! ينسى الناسُ، معظمُ الناس. أجل، ينسى معظمُ الناس، إن ارتقوا بضع درجات في الأرض، أنّ أحدًا لم يولد عاليًا من بطن أمّه، بل يصير. ولا يصير المرء عاليًا إلاّ إن التزم أنّه »أخ صغير« في عائلة كلّ أعضائها كبار. هذا أريده أن يذكّرني بقولة السيّد: »إن لم ترجعوا فتصيروا مثل الأطفال...« (متّى 18: 3).

بعضنا، بل معظمنا، إن ذكروا هذه الآية عن وعي، يربطونها بأنّ الإنسان لا قيمة له إن لم يبقَ طفلاً في علاقته باللَّه أبيه. وهذا ربط صحيح، طبعًا. ولكنّ وعي الأبوّة، بمنطق العهد الجديد والتراث المسيحيّ كلّه، يفترض وعي الأخوّة أيضًا، أي الحياة الأخويّة. وخير برهان على ذلك أنّ يسوع، عندما علّم تلاميذه الأوّلين أن ينادوا اللَّه »أبانا الذي في السماوات«، استعمل لفظة »أبانا« بصيغة الجمع. لم يقل لهم: قولوا أبي، بل أبانا. وهذا يعني أنّه أرادنا أن نعلم أنّ الإنسان، الذي يعتقد أنّ اللَّه أبوه حقًّا، يجب أن يعتبر، ضمنًا، أنّه عضو في عائلة، أبوها واحد، تضمّ إخوةً كثيرين. لا أخمّن، بل أجزم أنّ الربّ، بقوله عن هذا »الرجوع« إلى الطفولة، أراد من كلّ مسيحيّ، أيًّا كان موقعه أو مقامه، أن يبقى يحيا كما لو أنّه »أخ صغير« في علاقته بأبيه وإخوته في آن. هذا هو مدلول النضج الحقّ الذي لا يمكن أن يعطيه العالم.

لا أخلط بين الأمور إن ذكرت أنّ أيًّا منّا، إن لم يختبر الإخلاص لأصدقاء عاشرهم في طفولته، فلا بدّ من أنّه يعرف مخلصين سواه! كيف لنا أن نفهم هذا الإخلاص؟ هذا، إن قاربته، لا يمكنك سوى أن تتكلّم عليه، وتصفه. ثمّة أناس كثيرون، يحملون ثقل السنوات ولا يثبتون في مدًى محدّد أو وجوه محدّدة، ويبقون يحيون في شوارع طفولتهم وأزقّتها! إن حسبنا عدد الذين صادقناهم في دنيانا بالغين، فسنجد أنّنا حافظنا على صداقة بعض، وأهملنا آخرين. لكنّنا، بمعظمنا، بقينا مخلصين لمعظم مَن عرفناهم في طفولتنا. لِمَ هذا الإخلاص؟ هل هو حنين إلى وراء خلّفناه، أو حنين إلى الأمام، أي إلى تحقيق الكلمة (إن لم ترجعوا...) أو إلى رجاء الوعد أن يلدنا اللَّه أخيرًا؟ أعتقد أنّ هذه كلّها يمكنها أن تكون جوابًا صحيحًا!

هذا من زرع اللَّه. فلقد زرع الربّ فينا حبًّا للطفولة. ولكنّ هذا، كنسيًّا، غير ممكن من دون خبرة نذوقها، سرّيًّا، في شركة حياة طاهرة. فقولة يسوع عينها »إن لم ترجعوا...«، تفترض أنّ مَن يريدهم أن يسترجعوا طفولتهم (والمعنى مجازيّ) كانوا هكذا قَبْلاً. فأنت لا يمكنك أن ترجع إلى ما لم تكن عليه! أين كنّا أطفالاً؟ في معموديّتنا! هناك وُلدنا من جديد. وإذًا، كلّ الحياة في المسيح أن نحيا، فعليًّا، أنّنا معمّدون. هذا يشرّع أن نفهم أنّ مضمون الآية أسراريّ، يتعلّق، بعد المعموديّة، بسرّ الإفخارستيّا أو التوبة.

معنى ذلك كلّه يكمن في أن نبقى مخلصين لإخوتنا، أي لمدلول معموديّتنا، أي لطفولتنا.

لا بأس إن قلت إنّني أعلم أنّ الكلام على الطفولة يلزمنا التزام الطراوة في التعبير عن أفكارنا. ولا آخذ من لغة الكبار الذين قسوا إن قلت إنّ أعلى مشاكل الإنسان أنّه يهرم، روحيًّا! وهذا، في تعليمنا، تقع مسؤوليّته على الإنسان نفسه، أيًّا كانت جماعته، شابّةً أو هرمة! الإنسان نفسه، في علاقته باللَّه، يبقى طفلاً (أو يرجع إن ابتعد، كما قال يسوع). والإنسان نفسه، في ابتعاده عن اللَّه وعن إخوته، يهرم. لا أعتقد أنّ ثمّة مسيحيًّا عاليًا، عاليًا أي يسعى إلى البلوغ الحقّ، يرضى بأن يخلع ثوب طفولته، ليرتدي آخر رثًّا، أيّ ثوب آخر رثّ. وهل من ثوب أرثّ من الغرق في الدنيا جاهًا أو وجاهةً! هل من ثوب أرثّ من أن أستكبر على إخوتي الكبار أو الصغار، ولا سيّما منهم الذين تعلّمت، عليهم أو من إشعاعهم، الحكي والمشي السويّ؟! مسكين أنا، أجل مسكين وهرم، إن توهّمت بأنّني، بعيدًا أو مستكبرًا، وجهٌ يُرى، أو صوت يُسمع، أو... أو شيء يُحسَب؟! ومسكين أنا، أجل مسكين وهرم، إن توهّمت أنّني كبير أو غششت إخوتي بمنعهم من أن يروني على حقيقتي، ليهربوا من شرّي، أو ليساعدوني على أن أكبر، كما يليق باللَّه!

أمّا هذا الهرم أيضًا، فيأتينا في أيّ عمر، توًّا يأتيني، إن دخلني، شابًّا أو كهلاً أو شيخًا، أنّني أستحقّ محبّة إخوتي لي ورعايتهم إيّاي. في كنيستنا، كثيرًا ما نتكلّم على محبّة اللَّه المجّانيّة. ولا أرى أمرًا، يبقيني واعيًا أنّني طفل (بهذا المعنى الإيجابيّ الذي أخذني في هذه السطور)، مثل أن أعتقد بأنّني لا أستحقّ أن يحبّني أحد، أي بأنّ إخوتي، هم أيضًا، يحبّونني مجّانًا. مَن أنا؟ »أنا دودة لا إنسان«. مَن، مَن أنا؟ أنا شخص »كان نازلاً من أورشليم إلى أريحا، وقع بين اللصوص، فضربوه، وعرّوه، وتركوه بين حين وميّت«، ووجده إخوته، وأعانوه مجّانًا. هذا أنا، ما دمت أمشي على هذه الأرض. والويل لي إن نسيت، لحظةً، مَن أنا!

في هذه الحياة الدنيا، ما من أمر أعلى، من أن أكون، أيًّا كان موقعي في الأرض، واحدًا في جماعة الإخوة. هذا سيعطيني اللَّه، في الحياة الأخيرة، إن كان لي نصيب فيها، أن أكتشفه هو هو. يبقى أن أسعى، ما دام لي يوم، إلى أن أخدم أنّنا جميعًا إخوة، لربّما يعرف العالم أنّ ما يرجونه، في الأبد، ممكنٌ الآن!l

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search