2013

8. "أبانا" - ريمون رزق – العدد الثالث سنة 2013

 

ابانا

 

ريمون رزق

 

أبانا

الصلاة الوحيدة التي علّمنا إيّاها الربّ يسوع هي الأبانا. تُرى لماذا اكتفى بها؟ أليس لأنّها تلخّص كلّ ما أتى يرشدنا إليه؟ وقد أحاطت الكنيسة الأولى هذه الصلاة باحترام شديد وهيبة خاصّة جعلها لا تسلّمها إلى الموعوظين إلاّ بعد عمادهم، إذ كانت تعتبر أنّه من الجرأة بمكان أن يدعو المرء اللَّه »أبانا« إن لم يكن يعيش، أو على الأقلّ يسعى لأن يعيش، حياة تؤهّله لذلك. وقد أكّد النيصصيّ هذا المفهوم إذ قال إنّه شيء شديد الخطورة أن ندعو اللَّه أبًا قبل أن نقوّم حياتنا، أن »نقلبها« مغيّرين مفاهيمنا كلّيًّا، أي بعبارة أخرى، قبل أن ندخل في طريق التوبة، التي هي metanoia بالفعل، »انقلاب« كما تعني اللفظة اليونانيّة المستعملة في الإنجيل للإشارة إليها. وكانت كنيسة أنطاكية تعتبر الصلاة »الربّيّة« »شرعة الأخلاق المسيحيّة«، إذ مَن لا ينتقل من الإنسان القديم إلى الإنسان الجديد، ولا يطابق حياته لكلّ متطلّبات هذه الصلاة، لا يستحقّ أن يُدعى مسيحيًّا.

أن نتألّه

ليس في نيّتي أن أسعى، في هذه العجالة، إلى شرح هذه الصلاة التي لا بدّ من أن نغوص في معانيها من وقت إلى آخر، لنجدّد التزامنا، ونقوّم طريقنا. ما يعنيني الآن هو مطلعها فقط، أي لفظة »أبانا«. يريدنا الربّ، إذًا، أن ندعو أباه أبانا. وتاليًا يريدنا أن نصبح أبناء اللَّه، أي إخوة له. هذا هو هدفه: أن نكون أبناء يعني أن نكون إخوة ليسوع. وإن أصبحنا أبناء للَّه وإخوة ليسوع، لا بدّ من أن ندخل في علاقة صميميّة معهما، وأن نصير من »عائلتهما«، أو بعبارة أخرى، أن نصبح، بشكل من الأشكال، آلهة بالنعمة التي يغدقانها علينا باستمرار في الروح القدس. من هنا التأكيد منذ أيّام المسيحيّة الأولى، من قبل عدد من الآباء (إقليمنضس الإسكندريّ، وإيريناوس، وغيرهم)، أنّ »اللَّه صار إنسانًا كي يصير الإنسان إلهًا«.

لا نسمع، في هذه الأيّام، الكثير عن هذا الهدف الذي وضعه يسوع لنا. المطلوب أن نصبح آلهة، ليس إلاّ، وليس فقط أن نتخلّق بما يُسمّى الأخلاق بالمسيحيّة، كما نسمع غالبًا في المواعظ. قلّما يتجرّأ الواعظ على أن يذكّرنا بما أراده لنا يسوع، إذ يُعتبر صعب المنال، إن لم يكن مستحيلاً، كما يعتقد كثيرون جعلوا من النصرانيّة مجموعة أخلاق »لائقة«. وفي هذا المضمار من الجدير بنا أن نذكر ما يقوله سمعان اللاهوتيّ الجديد، في أحد أناشيده (27): »لا تقولوا إنّ نيل الروح القدس أمر مستحيل!... لا تقولوا إنّ اللَّه لا يكشف نفسه للإنسان! لا تقولوا إنّ الإنسان لا يستطيع معاينة النور الإلهيّ، وإنّ ذلك مستحيل في الأزمنة الحاليّة! لم يكن هذا الأمر مستحيلاً يومًا، أيّها الأصدقاء! على العكس، إنّه ممكن جدًّا، عندما نريد، لكن فقط للذين قد لطّفت الحياة أهواءهم، ونقّت عيون ذهنهم!«. أقوال مثل هذه عديدة في تراثنا، وسنكتفي بهذا القدر، مطمئنّين إلى أنّ غيرنا قد وصل، وأنّه يمكننا تاليًا أن نتمثّل بهم، إن أردنا. فلننظر إذًا إلى كيف يمكننا أن نصبح أبناء حقيقيّين للَّه، كما تدعونا الصلاة الربّيّة.

مَن يجعل منّا أبناء؟

يجعلنا أبناء، بالطبع، أخونا البكر، يسوع. هو، وحده، الطريق المؤدّية إلى الآب، إذ لم ير الآب سوى الابن ومَن يعبّد له الابن الطريق. فتح الربّ يسوع الأبواب، مرّة وإلى الأبد. هو آدم الجديد الذي أتى ليخلّصنا من عواقب خطيئة آدم الأوّل. البنوّة الإلهيّة والخلاص حصلا بموته وقيامته. إذًا، الباب مشرّع والطريق جاهز، فكيف ندخل؟ يتكلّم اللاهوت الأرثوذكسيّ بإسهاب على عمل اللَّه المجّانيّ هذا وعملنا نحن. بفعل الإرادة الحرّة Synergie عمّا يسمّيه التناغم التي وضعها اللَّه فينا، عندما خلقنا على صورته ومثاله، علينا أن نجاهد من أجل الحصول على خلاصنا. هذا الخلاص حاصل لي بالفعل، فقط إن أنا أردته وسعيت بجدّ إليه، إذ يقول إيريناوس: »لا إكراه عند اللَّه، بل نصائح«.

ما هي سمات الأبناء؟

 سمتهم الأولى أن يكونوا  مثل والدهم وأخيهم. يؤكّد الكتاب العزيز بطريقة لا تحمل الجدل أنّ اللَّه محبّة، بالضبط لأنّه ثالوث. لا يمكننا أن نفهم ماهيّتها الحقيقيّة إذ هي في سرّ اللَّه الذي لا يُدرَك ولا يُدنى منه، بل يمكننا أن نتصوّرها من أفعالها وممّا يقول بولس وغيره عن المحبّة البشريّة. يقول الأب ليف جيلله: علينا إذًا أن نحبّ، بل أن نصبح محبّة. »مَن يستطيع فهم المحبّة سوى مَن يحبّ؟ فأتّحد بحبيبي، ونفسي تعشقه« (أودية سليمان). لذلك نرى المسيحيّين الأوائل يشدّدون على حياة المحبّة للَّه والإخوة والقريب والأعداء أكثر ممّا يشدّدون على أمور أخرى: المسيح مات وقام محبّةً بالجميع. ولا يمكننا أن نصبح إخوته إلاّ إذا تصرّفنا مثله. »المحبّة أثمن من جميع العلوم وأكثر مجدًا من النبوءات وأعظم من جميع المواهب الإلهيّة« (إيريناوس). »المحبّة تقود إلى علوٍّ لا يوصف ولا يُنطق به. تلصقنا المحبّة باللَّه... المحبّة لا تعرف الكبرياء،  لا نغضب، تتحمّل كلّ شيء، ترفق، تتأنّى. لا عنف فيها. تكمّل. من دون محبّة لا شيء يرضي اللَّه« (إقليموس الرومانيّ). الموضوع ليس مناقبيًّا مع أنّه يأخذ طابعًا مناقبيًّا. كون اللَّه محبّة هو سرّ، سرّ الثالوث. ومحبّة يسوع للعالم هي أيضًا سرّ، سرّ التدبير الخلاصيّ. إذًا، اكتسابنا المحبّة هو ولوج في سرّ اللَّه، هو عيشنا فيه ومعه. هو، كما يقول الربّ في صلاته إلى أبيه: أن »يكون فينا الحبّ الذي أحببتني به، وأكون أنا فيهم« وليس فقط موضوع حسن تصرّف.

٤- أنا هو الطريق، قال الربّ. لا سبيل لنا سوى اتّباع هذا الطريق. طريقنا إلى المحبّة هي في تمثّلنا بيسوع، كي ينمو هو فينا وينقص أنانا. يقول إيريناوس: »التمثّل بالمسيح ومحبّة اللَّه يوصلاننا إلى التألّه« و»عندما نتمثّل بالمسيح وننفّذ أوامره، نتّحد به«. ويقول بوليكربوس »اثبتوا واتبعوا مثال الربّ«. ويقول أغناطيوس الأنطاكيّ: »اقتدوا بالمسيح« يمكن أن يوصل هذا التمثّل إلى الموت: »لا يحاولنّ أحد أن يمنعني من التمثّل بالمسيح« (أغناطيوس الأنطاكيّ)، وهكذا تصرّف الشهداء... هذا يتطلّب منّا التفتيش عن يسوع في كلّ مواضع سكناه: في لقاء الصلاة الفرديّة والجماعيّة، في لقائه وجهًا لوجه في كلمته الإنجيليّة، في لقائه حسّيًّا في سرّ الإفخارستيّا، في لقاء الإخوة باسمه حيث يحبّ أن يستقرّ، في إعانة الفقير حيث يسكن، في العيش الدائم الواعي في حضرته، في خدمته في كلّ الناس، وفي استنباطه في طيّات العالم والثقافة وحياة الأمم. إذًا، ما أصبح ممارسات غالبًا مقطوعة عن الهدف الذي وُضعت من أجله، ويُشدّد عليها الآن كفرائض وليس عمل حبّ وتفتيش عن المحبوب، كان بالنسبة إلى المسيحيّين الأوائل طريقة العيش الوحيدة التي جاهدوا للحفاظ عليها.

٥- الحفاظ على نمط الحياة هذا يتطلّب فضائل مختلفة تراهم يسعون إليها، لأنّه، بدونها، لن يصلوا إلى المحبّة، التي هي أمّ الفضائل وأعظمها.

أوّلاً، الإيمان بأنّ يسوع مات وقام ويدعونا إلى التألّه: »الإيمان هو بدء الحياة والمحبّة المنتهى، واللَّه هو في وحدتهما« (أغناطيوس الأنطاكيّ).

ثمّ التواضع: أنزل الأعزّاء عن الكراسي ورفع المتواضعين، »واضعين جانبًا كلّ عجرفة... لأنّ المسيح هو مسيح المتواضعين، لا مسيح الذين يتعالون على بعضهم« (إقليموس الرومانيّ)، »مَن اراد أن يكون مؤمنًا... عليه أن يكون أكثر تواضعًا« (إقليمس الرومانيّ)، »كن متواضعًا... كن وديعًا، لا تحقد، أحبب قريبك أكثر من نفسك، اعتبر كلّ ما يحدث لك خيرًا« (رسالة برنابا)، »واجهوا غضب الناس بالوداعة وتبجّحهم بالدعة« (أغناطيوس الأنطاكيّ)، »إن لم يكن لديكم التواضع، لا ينفعكم حتّى أن تطعموا الناس كلّ ما لديكم...« (كتاب المراقي).

ثمّ الغفران المرادف للتواضع: ابتداء من أوّل الشهداء إستفانوس: »يا ربّ، لا تُقم لهم هذه الخطيئة«، »يكمن التواضع في الغفران لأخيك الذي أساء إليك قبل أن يطلب المغفـرة«، »التواضـع في صنـع الصـلاح مـع مَـن يُسـيء إليـك« (أقـوال الآباء الشيوخ) (قصّة الشيخ  الأب موسى، الأقوال 8).

فالصلاة بلا انقطاع والعيش في حضرة اللَّه الدائمة: »صلّوا لأجل أعدائكم« (الذيذاكيا)، »صلّوا بلا انقطاع من أجل الآخرين، لأنّكم بهذا تقودونهم إلى الربّ« (أغناطيوس الأنطاكيّ)، »أينما ذهبت فليكن اللَّه نصب عينيك« (أنطونيوس الكبير)، »إنّ مَن يريد أن يستجيب اللَّه لصلاته... عليه قبل كلّ شيء أن يصلّي أوّلاً من أجل أعدائه، وإن فعل ذلك، يستجيب اللَّه لكلّ طلباته« (أقوال الآباء). »المحبّة أعظم من الصلاة« إذ تؤدّي الصلاة إلى المحبّة. »الإنسان، الذي يصلّي فقط عندما يصلّي، لا يصلّي بتاتًا«. لا طلب، بل تسليم لعناية اللَّه. »مَن يحبّ اللَّه يتحدّث معه دومًا كما مع أب« (إفاغريوس البنطيّ).

فالرأفة والعطاء: كواجب طبيعيّ لأنّ اللَّه لا يفرّق بين الناس، وجعل الأغنياء وكلاء وليس ملاّكين لأموالهم. »فليعط الغنيّ الفقير وليشكر الفقير اللَّه الذي أوجد مَن يسدّ له عوزه« (إقليموس الرومانيّ)، »إذا أخذ أحد مالك فلا تطالبه بشيء، وكلّ مَن سألك فأعطه ولا تطالب بشيء. لا تفتح يدك عند الأخذ وتطبّقها عند العطاء. لا تصرف المحتاج، بل اقتسم كلّ شيء مع أخيك، ولا تحتفظ به لنفسك وحدك« (الذيذاكيا)، »رفض مساعدة الآخر هو نكران مائدة الربّ«، »نفس المؤمن هي هيكل المسيح الحقيقيّ. فزيّنوها واكسوها وقدّموا لها الذبائح من أجل استقبال المسيح فيها. عندما يموت المسيح من الجوع في شخص الفقير، لا جدوى من تزيين الجدران« (إيريناوس)، »أعط ببساطة، المحتاجين، لأنّ المعطي الحقيقيّ هو اللَّه. لا تتردّد في العطاء، ولا تقل هذا يستحقّ وذاك لا يستحقّ. أعط الجميع لأنّ اللَّه يريد أن يشرك الجميع في خيراته... احذر، فيما أنت في أرض غريبة، أن تقتني أكثر ممّا أنت بحاجة إليه... وبدل أن تبتاع الأراضي والأبنية، اشتر النفوس المعذّبة... احترزوا، أيّها الأغنياء، من نحيب المحتاجين« (الراعي هرماس). »لنا صندوق مال مشترك. ولا يتكوّن من مبالغ فخريّة يقدّمها أفراد النخبة، كما لو أنّ الديانة تُعرض في المزاد العلنيّ، بل كلّ واحد منّا يقدّم شيئًا زهيدًا، على قدر استطاعته وإمكانيّاته، في يوم معيّن من الشهر، أو في اليوم الذي يختاره، أو حين يستطيع ذلك، من دون أن يُرغمه أحد على الدفع. ولا تُصرف مبالغ في سبيل المآدب أو جلسات السكر، بل من أجل إطعام الفقراء أو دفنهم، ومساعدة الأيتام... الذين يفتقرون إلى المال، والطاعنين في السنّ، والمعوزين، والمسيحيّين الذين يعذَّبون في سبيل اللَّه... وهذه الأعمال الخيّرة هي، في نظر كثيرين، وصمة معيبة، ويقولون مستهزئين: »انظروا كيف يحبّون بعضهم بعضًا« أو... »انظروا كيف أنّهم مستعدّون للموت بعضهم في سبيل بعض« (ترتليانوس الإفريقيّ). »مغبوط مَن يعتبر جميع الناس، بعد اللَّه، اللَّه« (إيفاغريوس).

فالمحبّة الأخويّة: »لا تفعل للآخرين ما لا تريد أن يفعله الناس بك« (الذيذاكيا)، »أحبّوا مبغضيكم. فلا يكون لكم أعداء.. مَن لطمك على خدّك الأيمن، حوّل له الآخر، فتكون كاملاً... لا تبغض أحدًا، لكن أصلح بين الناس، وصلّ من أجلهم« (الذيذاكيا). »لا تقل شيئًا ضدّ أيّ إنسان«، تسالموا في ما بينكم« (الراعي هرماس)، »لماذا نمزّق أعضاء المسيح؟ ... أننسى أنّنا أعضاء واحدنا في الآخر؟« (إقليموس الرومانيّ)، »إن أحبّ إنسان إنسانًا، أصبح قريبه. وإن أساء إليه، صار قاتله« (كتاب المراقي)، »إنّ الحياة والموت يتعلّقان بالقريب. إن رحمنا أخًا، يرحمنا اللَّه، وإن أعثرناه، أخطأنا إلى المسيح«. و»عندما ترى أخاك، أترى اللَّه إلهك« (أنطونيوس الكبير). »الإنسان، الذي يعيش في العالم يخدم أخاه المريض، أفضل من ناسك لا يرحم القريب« (إيفاغريوس).

 

مطالعة الكتاب

٦- يعلّمنا الآباء كيف نحصل على هذه الفضائل وغيرها، وكلّما تقدّمت العصور وزادت الخبرات تجد مزيدًا من الإرشادات النابعة من الخبرة المعاشة، في محاربتهم الأهواء واكتسابهم الفضائل. معرفتهم النفس البشريّة توازي أحيانًا اكتشافات علم النفس الحديث، وأحيانًا تفوقها.

٧- الوصول إلى المحبّة الحقّ تقرنه مشاهدة للَّه ورؤية تكلّم عليها الكثيرون بتفاصيل لا يمكن أن تأتي على بال أحد، وبخاصّة سمعان اللاهوتيّ الجديد. l

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search