من يغلب… كما أنا غلبت (رؤيا ٣: ٢١)
طوبى لكم يا شهداء المسيح لأنّكم قد غلبتم
لبنى فارس الحاجّ
وسط الاضطهاد العنيف الذي يتعرّض له المسيحيّون في أماكن عدّة من العالم، لا بدّ لنا من الالتجاء إلى كلمات الربّ التي أعلنها لنا في الكتاب المقدّس، ولا سيّما في سفر رؤيا يوحنّا، فنستمدّ العون والتعزية من »أبي الرأفة وإله كلّ تعزيّة، الذي يعزّينا في كلّ ضيقتنا، حتّى نستطيع أن نعزّي الذين هم في كلّ ضيقة بالتعزية التي نتعزّى نحن بها من اللَّه. لأنّه كما تكثر آلام المسيح فينا ، كذلك بالمسيح تكثر تعزيتنا أيضًا«(1). ولماذا سفر الرؤيا بالتحديد؟ لأنّه السفر الذي كُتب من أجل هذه الغاية بالذات: التعزية والتشديد.
سفر الرؤيا
فهم النوع الأدبيّ، الذي يتميّز به سفر الرؤيا، وخلفيّته وموقعه التاريخيّ، أمور أساسيّة ترمي إلى فهم معنى هذا السفر ورسالته. وهذا ما ينطبق على كلّ سفرٍ من أسفار الكتاب المقدّس. غير أنّ لغة سفر الرؤيا جعلته يخضع لتفسيراتٍ غريبة أخطأت تمامًا. إذ هو لا يقدّم خارطة طريق للأحداث المستقبليّة، وكأنّ الهدف منه إشباع الفضول البشريّ. في الواقع، لم يُكتب أيّ سفر من أسفار الكتاب المقدّس بهذا الهدف. حتّى إنّ يسوع نفسه يحذّر الناس ألاّ يتأمّلوا في هذه المواضيع. رؤيا مرقص 13 تضيف إلى كلّ ملاحظة تتعلّق بما سيحصل عند نهاية العالم، دعوة السامعين إلى الثبات حتّى النهاية: »ما أقوله لكم، قولوه للكلّ: اسهروا«(2). رؤيا يوحنّا تظهر وكأنّها تشرح مرقص 13: إنّها تحذير »للصبر حتّى النهاية«، مع وعد بالخلاص لكلّ من يفعل ذلك. فهي تعطي صورةً قويّةً وواضحة عن عالمٍ يبدو فيه السلطان للشرّ، غير أنّها تؤكّد أنّ هذا الشرّ يتمتّع فقط بسلطة وقتيّة، حتّى يأتي اللَّه ويقتلعه تمامًا. والصور الملموسة، التي تقدّمها، تعطي للقارئ رجاءً ثابتًا أنّ الذين يصبرون سيحصلون على المجد الذي ينتظرهم.
كاتب السفر
يعرّف كاتب سفر الرؤيا عن نفسه أنّه عبد اللَّه يوحنّا، أخو الذين يكتب لهم وشريكهم في الضيق وفي ملكوت يسوع المسيح وصبره. وهو يقول أيضًا إنّه كان في جزيرة بطمس(3) لأجل كلمة اللَّه وشهادة يسوع (1: 1 و4 و9)؛ وفي نهاية السفر يقول له الملاك الذي أراه الرؤيا: »لأنّي عبد معك ومع إخوتك الأنبياء«. وهناك تقليد على شيء من الثبوت عُثر على بعض آثاره منذ القرن الثاني، ورد فيه أنّ كاتب السفر هو الرسول يوحنّا، الذي نُسب إليه أيضًا الإنجيل الرابع. يعود هذا التقليد إلى القدّيس يوستينوس الشهيد(160م) الذي كان أوّل من استشهد بهذا السفر، وتبعه في ذلك القدّيس إيريناوس، أسقف مدينة ليون (200م). ومع ذلك لم يُقبل السفر بالإجماع حتّى وقت متأخّر، وذلك بسبب الهرطقة الألفيّة(٤). أمّا الكنيسة الأرثوذكسيّة، فرغم أنّها لا تقرأ سفر الرؤيا في عبادتها، غير أنّ مكان العبادة ونظامها ولباسها مستقاة جميعها من هذا السفر(٥).
ظروف إنشاء سفر الرؤيا
في العام 64م، شنّ الإمبراطور الرومانيّ نيرون (54- 68) اضطهادًا عنيفًا ضدّ المسيحيّين متّهمًا إيّاهم بإحراق روما. الاضطهاد العنيف الثاني، الذي عرفته الكنيسة، تمّ على عهد دومتيانوس(89- 96)، حيث ظهر سفر الرؤيا. ظهور هذا السفر في عهد هذا الأخير يوافق شهادة إيريناوس، ويبيّن أسباب تشديد سفر الرؤيا على التضادّ الذي لا سبيل لإزالته بين ملكوت الربّ يسوع ومُلك القيصر وما فيه من كفر. ذلك بأنّ دومتيانوس سعى إلى نشر عبادة القيصر، ونظّمها في شرق الأمبراطوريّة، أي في آسيا الصغرى، بالقرب من جزيرة بطمس: »...أنا عارفٌ أعمالك وأين تسكن حيث كرسيّ الشيطان...«(6). فهو فرض على رعاياه أن يقدّموا له العبادة، وأن يعلنوه »كيريوس«، أي »السيّد/ الربّ« (من هنا نفهم لماذا شدّد سفر الرؤيا على الاحتفاظ بهذا اللقب للمسيح). هكذا صارت العبادة والسجود الواجبان للأمبراطور العلامة المميّزة للمواطن الصالح، وتاليًا الوسيلة الوحيدة لحياة عاديّة، والشرط الضروريّ لممارسة بعض الوظائف أو القيام بالأعمال التجاريّة. إذًا، دعت الأمبراطوريّة الرومانيّة الناس إلى إيديولوجية من نمط إلهيّ في سعيها لتوطيد سلطتها. هكذا وجد المسيحيّ نفسه أمام خيار لا مساومة فيه: إمّا أن يقبل أن يعيش ككلّ إنسان فيؤدّي فروض العبادة لقيصر، أو أن يرفض هذا الأمر فيعيش كخارجٍ على القانون، ويستعدّ للاستشهاد في كلّ وقت. وبكلام آخر، وجدت الكنيسة نفسها مجبرةً على الاختيار بين عبادة الربّ »يسوع« أو الربّ »قيصر«، وإذ اختارت أن تُعلن ربوبيّة يسوع، وضعت نفسها في مواجهة مريرة مع دولة متسلّطة.
الكنيسة الناشئة إذًا، اختبرت الاضطهاد من جهة، و»تعبت« من انتظار المجيء الثاني للمسيح من جهةٍ أخرى، الأمر الذي دفع الكثيرين إلى الفتور، والارتياب وفروغ الصبر، وحتّى إلى التخلّي عن الإيمان. في وسط هذا الضيق، ظهر سفر الرؤيا يشدّد المؤمنين ويشجّعهم على الثبات في إيمانهم وعدم خيانته حتّى ولو دفعوا حياتهم ثمنًا له. هو يؤكّد لسامعيه أنّه، رغم كلّ المظاهر المتمثّلة بسلامة من أنكر إيمانه، ومعاناة من بقي أمينًا، لا يزال اللَّه مسيطرًا على مصير البشريّة. هذا السفر كان مهمًّا جدًّا. فلو لم يؤدّ الاضطهاد إلى تخلّي أعضاء الكنيسة عن إيمانهم، لما كان هناك من داعٍ لهذا التحذير الذي نادى به دافعًا المؤمنين إلى الثبات في هذا الإيمان. هذا السفر إذًا، قدّم التشجيع والعزاء لكلّ الذين كانوا يعلمون أنّهم قد يسمعون، في أيّ دقيقة، القرع المخيف على الباب.
النوع الأدبيّ
كلمة »رؤيا« Apocalypsis تعني الكشف، الإعلان، رفع الستار. وسفر الرؤيا هو إعلان يسوع المسيح الذي أعطاه إيّاه. اللَّه، ليُري عبيده ما لا بدّ من أن يكون عن قريب(٧). وطيفه، أي طيف يسوع، ماثلٌ في كلّ وقت أمام قرّاء يوحنّا المعاصرين له، وأمام المسيحيّين على مدى الأجيال. ينتمي هذا السفر إلى الأدب الرؤيويّ الذي كان يظهر في أزمنة الاضطهاد، ليحثّ المؤمنين على الثبات في إيمانهم، حتّى على حساب حياتهم. يشكّل كتاب دانيال في العهد القديم نموذجًا لهذا الأدب. ولكن من ميزات سفر الرؤيا أنّه مكتوب بشكل رسالة موجّهة إلى الكنيسة على مثال رسائل الرسول بولس. فالرؤيا هي رسالة واحدة موجّهة إلى كلّ كنيسة، كلّ كلمة فيها موجّهة إلى كلّ سامع. فرغم أنّها تضمّ سبع رسائل شخصيّة موجّهة إلى سبع كنائس(8) في الإصحاحين الأوّل والثاني، غير أنّ كلمات يسوع، التي تنهي كلّ رسالة، لا تدع مجالاً للشكّ في أنّ الكتاب بأكمله موجّه إلى كلّ مؤمن، بغضّ النظر عن أيّ كنيسة انتمى: »من له أذنان، فليسمع ما يقوله الروح للكنائس« (رؤ 2: 7، 11، 17، 29؛ 3: 6، 13، 22). من هنا، يُطرح السؤال: لماذا هذه الرسائل السبع الموجّهة إلى الكنائس السبع؟ الإجابة تكمن في أنّ الرقم 7 يشير إلى الكمال الإلهيّ. فالهدف هو التشديد على أنّ الرسالة موجّهة إلى كنيسة اللَّه بملئها، ولا يوجد أيّ رقم آخر يعبّر عن هذا المعنى بهذا الوضوح. ولو بعث يوحنّا المنفيّ إلى جزيرة بطمس برسول إلى هذه الكنائس، لكان عليه أن يعبر أوّلاً إلى أفسس، ثمّ يسير بطريق دائريّ، حيث يصل إلى الكنائس السبع بحسب الترتيب المُشار إليه في سفر الرؤيا. هذه الجماعات كانت معتادةً على تمرير رسائل بولس، لتتمّ قراءتها في الكنائس المختلفة، بغضّ النظر عن الكنيسة التي كانت تتوجّه إليها كلّ رسالة: »ومتى قرئت عندكم هذه الرسالة، فاجعلوها تُقرأ أيضًا في كنيسة اللاودكيّين والتي من لاودكية تقرأونها أنتم أيضًا«(9).
إذًا، كلّ ما يراه الرائيّ يجب أن يتوجّه إلى كلّ القرّاء والمستمعين، حيث يجب أن يختاروا إمّا ما يؤدّي إلى البركات أو ما يؤدّي إلى اللعنات، ولا يوجد حلٌّ وسطيّ. فهدف سفر الرؤيا هو أن يُعلن، أن يكشف للمؤمنين أنّ الألم الجسديّ والموت يستحقّان أن يختارهما المؤمنون، حتّى ولو كانت الحياة السهلة هي الخيار الثاني. كما أنّه يسعى إلى إظهار أنّ الاستشهاد ليس حكرًا على قلّة، في حين أنّ الآخرين قد يخونون إيمانهم باختيارهم حياة فضلى لهم. للوصول إلى هذا الهدف، هو يؤكّد، كما سبقت الإشارة، أنّ كلّ شيء تحت سلطة اللَّه، رغم كلّ المظاهر. والمسيح المصوّر فيه، هو مثال الشهيد الذي على كلّ الشهداء الجدد أن يتبعوه، ومعه سوف يحصلون على السلطان في ملكوت اللَّه.
الرموز في سفر الرؤيا
سفر الرؤيا مليء بالرموز، بالصور، التي إن أُسيء تفسيرها، يُساء تفسير السفر بأكمله. هذه الرموز الحيّة كانت واضحة كلّ الوضوح بالنسبة إلى مخاطَبي يوحنّا، في حين أنّها لم تكن مفهومةً بالنسبة إلى السلطات الرومانيّة التي كانت مستعدّة دائمًا، لتتّهم الكتب المسيحيّة بأنّها تدعو إلى التحريض على الثورة. بكلام آخر، نستطيع القول إنّ سفر الرؤيا كان مشفّرًا لا يفهمه إلاّ المسيحيّون. من هذه الرموز:
حرب بين الحمل والتنّين: حرب بين المسيح والشيطان (الأمبراطوريّة الرومانيّة).
الوحش الأوّل الطالع من البحر وعلى رؤوسه أسماء تجديف: الأمبراطور الرومانيّ وألقابه الإلهيّة.
الوحش الثاني الطالع من الأرض: الإيديولوجيّات (الأفكار والعقائد) التي تعمل في خدمة الأمبراطور ودينه.
الزانية العظيمة: روما.
الوحش ذو الرؤوس السبع والحامل للمرأة (الزانية): روما بتلالها السبع.
العروس امرأة الخروف: الكنيسة.
المرأة التي تلد ابنًا والتنّين: الكنيسة والمسيح والشيطان.
سبعة قرون وسبع عيون: كلّيّ القوّة وكلّيّ العلم؛ الثوب: الكهنوت؛ الشعر الأبيض: الأبديّة؛ منطقة من ذهب: السلطة الملكيّة. (وهذه الصفات كلّها تنطبق على المسيح).
الأحمر: الموت والعنف.
الأسود: الشرّ وعدم الإيمان.
البحر: مملكة الأشرار؛ الأرض: مركز الصراع بين الشرّ والخير؛ السماء: مملكة اللَّه.
الأرقام
في سفر الرؤيا نجد أيضًا العديد من الأرقام: ٣، ٤، ٦٦٦، ١٢، ٧، ١٤٤،٠٠٠، وغيرها. القارئ، الذي لا يفهم الرمزيّة المقصودة من هذه الأرقام لن يفهم قصد الكتاب بأكمله.
فالرقم 3 يشير إلى التأكيد (الثالثة ثابتة).
الرقم 4، بحسب السياق، إمّا يشير إلى الكلّيّة-الشموليّة (4 كجهات الأرض الأربع)، أو إلى بيت، أو إلى الهيكل (4 كالجدران الأربعة للمبنى).
الرقم 5 يُستعمل عادةً للإشارة إلى الشريعة (الكتب الموسويّة الخمسة).
الرقم 7 هو الرقم الإلهيّ. هو يشير إلى كمال الألوهة. الرقم، الذي هو أقلّ من 7، يؤدّي دورًا خاصًّا في الرؤيا، لأنّ الشرّير يظهر أنّه يأخذ مظهر الصالح. الفكرة أنّ الرقم 6 قريبٌ من الرقم 7، غير أنّه ليس إلهيًّا، بل شيطانيًّا. فهو يشير إلى الأمبراطور الذي يدّعي أنّه اللَّه، ولكنّه ليس اللَّه. والجدير بالذكر أنّ الرقم 666 الشهير يرد في الآية التالية: »هنا الحكمة، من له فهم فليحسب عدد الوحش، فإنّه عدد إنسان، وعدده ستّ مئة وستّة وستّون«(10). لفهم معنى هذا الرقم يجدر التذكير أوّلاً بأنّ الرسول يوحنّا لم يكن يكتب عن أحداث معاصرة لنا، بل عن وضع كان يواجهه هو وكنيسته. وفي أيّامه، كان احتساب رقمٍ ما، انطلاقًا من اسم ما، أمرًا مألوفًا، لأنّ الأحرف كانت تُستعمل كأرقام في الوثائق المكتوبة. ففي العبريّة واليونانيّة يشير كلّ حرفٍ من أحرف الأبجديّة إلى رقم معيّن. فالحرف الأوّل من الأبجديّة قيمته واحد، الثاني اثنان، وهكذا دواليك وصولاً إلى الحرف العاشر. الحرف الحادي عشر قيمته عشرون، الثاني عشر قيمته ثلاثون، وهكذا دواليك. وبما أنّ الآية تعلن أنّ العدد 666 هو عدد إنسان؛ وبما أنّ الأمبراطور دومتيانوس سعى لنشر عبادة الأمبراطور، فوضع صوره وتماثيله ليسجد الناس لها، »...ويجعل جميع الذين لا يسجدون لصورة الوحش يُقتلون«(11)؛ وبما أنّ الناس أيضًا قد نظروا إلى دومتيانوس وكأنّه نيرون وقد عاد حيًّا من جديد، وذلك بسبب اضطهاده العنيف الذي شابه اضطهاد نيرون، فهذا كلّه يعطي سببًا وجيهًا لفهم الرقم 666 على أنّه محتسَب من جمع حروف اسم »نيرون قيصر« العبريّة »نرون قصر« التي تساوي هذا المجموع. فحرف النون يساوي 50، الراء يساوي 200، الواو يساوي 6، القاف يساوي 100، والصاد يساوي 60. وهكذا نحصل على الرقم 666 من جمع قيمة هذه الحروف مع بعضها. واللافت للنظر أنّه في إحدى المخطوطات اللاتينيّة أصبح الرقم 616، ذلك بأنّه في اللاتينيّة تُحذف النون Nero التي تساوي 50. إذًا، الرقم 666 يشير إلى الأمبراطور الرومانيّ الذي اضطهد المسيحيّين.
الرقم ثلاثة ونصف هو نصف السبعة. هو يشير إلى النطاق البشريّ بتضادّ مع النطاق الإلهيّ، أي إلى عدم الكمال. إنّه زمن الآلام، زمن التجربة، زمن الاضطهاد. والسنوات الثلاث والنصف التي تشير إلى هذا الزمن، توازيها الأشهر الاثنان والأربعون، والأيّام الألف والمئتان والستّون.
الرقم عشرة أو مضاعفاته (العشرات، المئات، الألوف،) تُستعمل عادةً للإشارة إلى أعداد الناس، وتقترح عددًا كبيرًا يشير إلى الكلّيّة.
الرقم 12 يشير، بالطبع، إلى أسباط إسرائيل الاثني عشر، وهكذا هو يشير إلى كلّ إسرائيل. تنبغي الإشارة هنا إلى أنّ إسرائيل، في العهد الجديد، تعني كلّ الذين قبلوا يسوع، أي المسيحيّين كمجموعة، ككنيسة.
الرقم 40 يشير عادةً إلى فترةٍ طويلةٍ جدًّا. عندما يُستعمل مع السنوات كوحدة قياس، يشير بالضبط إلى »جيلٍ واحد«.
أحيانًا يُجمع رقمان أو يُضربان. فمن 12 مضروبة ببعضها، وبضربها بـ10 مضروبة ببعضها نحصل على الرقم 144,000. هذا الرقم في الآية التي يرد فيها(١٢) يشير إلى أنّ كلّ إسرائيل(أي كلّ الذين قبلوا يسوع) سيخلص. من هنا، الرقم 12 يُضرب ببعضه للتشديد. وهو مضروب بـ1000 للإشارة إلى رقم كبير. وهذا ما تؤكّده الآية التالية: »بعد هذا نظرت وإذا جمعٌ كثير لم يستطع أحدٌ أن يعدّه من كلّ الأمم والقبائل والشعوب والألسنة...«(13). الهدف، إذًا، هو التأكيد للقارئ أنّ كلّ من بقي ثابتًا على إيمانه لن يُخرج خارجًا.
فقط إن أدركنا الرمزيّة المقصودة وراء الأرقام، نستطيع أن نفهم الإشارات المشوِّشة للفترات الزمنيّة المختلفة. فليس هناك أيّ نيّة في سفر الرؤيا للكلام على تتابع حرفيّ لفترات تاريخيّة: إنّه مناقشة مطوّلة للكلام على يوم الدينونة، إنّه نظرة إلى يوم الربّ عبر سلسة من الصور المختلفة، ولكن المترابطة. فالرؤى المتعاقبة ليست سوى اصطلاحٍ أدبيّ. فالحقائق عينها والبلاغ ذاته يؤكّد في سائر أجزاء السفر، ولكن بصور مختلفة. فالتكرار يسهم في التشديد على الخلاصة: الشهداء سيظهرون منتصرين في النهاية حتّى ولو ظهروا أنّهم مغلوبون، في حين أنّ المضطهِدين والمسيحيّين الذين يظنّون أنّهم يخلّصون أنفسهم بجحدهم إيمانهم سيظهرون في النهاية خاسرين ولو كانوا يظهرون الآن منتصرين.
الدعوة إلى الشهادة
إذًا، تتلخّص رسالة سفر الرؤيا بالدعوة إلى الشهادة: شهادة الكلمة، وإذا اضطرّ الأمر إلى الشهادة بالدم لهذه الكلمة. وتكرار الوعد سبع مرّات لـ»من يغلب«، في الإصحاحين الثاني والثالث، يعطي رؤية واضحة للبركات المستقبليّة، لا تتضمّن فقط الإعلان المسيحيّ الأساس حول الغلبة على الموت، بل أيضًا تذهب إلى أبعد من ذلك. فالمؤمن، الذي يغلب، سيحصل على »المنّ المخفيّ« وعلى »الحصاة البيضاء«(١٤) الخاصّة، وعلى »كوكب الصبح«(١٥). وسيصبح »عمودًا في هيكل اللَّه«(١٦)، وسيُعطى »سلطانًا على الأمم«، مشابهًا لسلطان المسيح، وسيرعاهم »بقضيب من حديد«(١٧)، وسيجلس مع المسيح في عرشه كما جلس المسيح مع أبيه في عرشه(18). إن قابلنا هذا الوصف مع ما نجده في وصف العهد الجديد للحياة الأبديّة في الأسفار الأخرى، نجد هذا الوصف مدهشًا وغريبًا.
غير أنّ أحدًا ممّن »يسمع ما يقوله الروح للكنائس« لا يستطيع أن يجلس مرتاحًا/مطمئنًّا، متوقّعًا أن يشارك في البركات الرائعة، ذلك بأنّ هذه البركات هي فقط لـ»من يغلب«. ما يعني أنّها لا تقصد، بالضرورة، كلّ مؤمن أو كلّ عضوٍ في الكنيسة. في الواقع، كلمة »يغلب« في الرؤيا تقصد الأمانة »حتّى النهاية«، وبخاصّة بقبول الاستشهاد كشاهد للمسيح. التحذير للبقاء »أمينًا حتّى الموت«(19) من الصعب جدًّا أن يعني »عش مجرى حياتك الطبيعيّ بأمانة«، بعد أن سبقته عبارة »لا تخف البتّة ممّا أنت عتيد أن تتألّم به«. غلبة المؤمن يجب أن تكون مماثلة لغلبة المسيح. الجلوس على عرش المسيح سيُعطى لـ»من يغلب... كما أنا غلبت«(20). رؤيا يوحنّا لا تترك مجالاً للشكّ في أنّ غلبة المسيح تمّت بموته: »الشاهد الأمين، بكر الأموات، الذي حرّرنا من خطايانا بدمه«(21)، و»مستحقّ الحمل المذبوح«(22). وأتباعه يشاركونه في غلبته بمشاركتهم في تضحيتهم الذاتيّة: »وهم غلبوه بدم الخروف وبكلمة شهادتهم ولم يحبّوا حياتهم حتّى الموت«(23). هنا لا تتعلّق فقط غلبة المؤمنين بترحيبهم بالموت، ولكن هذا الكتاب لا يقدّم أيّ طريقٍ آخر للغلبة. هو لا يمجّد أيّ مؤمنين سوى الشهداء، وهو يمجّدهم بتكرار وبقوّة. في الإصحاح السادس، هناك نصٌّ يعدهم بالانتقام، غير أنّه يدعوهم إلى الانتظار حتّى »يكتمل عدد الذين سيُقتلون كما أنّهم هم قُتلوا«(24). هذا كما لو أنّ المؤمنين الذين سيغلبون هم فقط الذين سيُقتلون. غير أنّه في نهاية سفر الرؤيا، يبيّن يوحنّا أنّ طريق الاستشهاد قد لا يكون الطريق الوحيد للحصول على الحياة الأبديّة، لكنّه قبل أن يُعلن ذلك يؤكّد أنّ للاستشهاد امتيازاتٍ لا يحصل عليها من لا يستشهد(25). هذا يذكّرنا ببدء السفر حيث أحبّنا المسيح وحرّرنا من خطايانا بدمه، وجعلنا ملوكًا وكهنةً للَّه أبيه(26)، الأمر الذي يوضح أنّ هذه كانت نيّة الكاتب أن يمجّد الشهداء والاستشهاد عبر الكتاب بأكمله.
الخلاصة
من هنا يتّضح أنّ مخاطَبي يوحنّا كانوا مؤمنين يواجهون الخيار بين أن ينكروا إيمانهم، أو يتعرّضوا لاضطهاد قد ينهي حياتهم بموت مرير. هو يكتب لهم، ليشجّعهم على مواجهة الاستشهاد. هذا الهدف يوضح كلّ الأوجه الفريدة للنصّ: الاهتمام الكبير المتعلّق بإيضاح كم أنّ الحياة بعد القيامة ستكون مجيدة، التشديد على أنّه فقط بعد الموت كشهيد للمسيح يتأكّد الإنسان أنّه سيشارك في هذه الحياة، وتقديم أولئك الذين استُشهدوا من أجل المسيح على أنّهم الوحيدون الذين قد »غلبوا«. في الإشارة إلى »من يغلب«، تأكيد أنّ التمثّل باستشهاد المسيح هو الطريق الوحيد »للغلبة«. لاحظ كيف أنّ أنتيباس »الذي قُتل بينكم« أُطلق عليه »شاهدي الأمين«(27)، كما أنّ المسيح هو الشاهد الأمين(28). ففي ساعة الاستشهاد، يأخذ المسيحيّ صورة المسيح إلى درجة يصبح المسيح وكأنّه يتابع آلامه في شخص الشهيد(29). في قصّة استشهاد فليستية(30) التي هزئ بها السجّان، إذ كانت تتألّم بسبب مخاض الولادة، قائلاً: »ما يكون حالك عندما تكونين في ساحة الوحوش؟« أجابت: »الآن أنا أتالّم ما أتألّم. أمّا هناك، فآخر عنّي يتألّم، لأنّي لأجله أتألّم«. من هنا، تماهى الشهداء مع يسوع عبر تضحيتهم، فسبقوا ونجحوا أمام محكمة اللَّه وحصلوا على لقب »غالب«. هم سبقوا ونجحوا في الامتحان الأخير (الدينونة الأخيرة) الذي يبقى مسألةً عالقة بالنسبة إلى كلّ مؤمن آخر...l