جولة في إنجيل القدّيس يوحنّا
المطران سابا إسبر
من هو الكاتب؟
كُتب الإنجيل »الرابع« في أفسس، من أعمال تركيا الحاليّة، في أواخر القرن الأوّل الميلاديّ 85-90 م. وتأتي الشهادة الأولى على أنّ يوحنّا الحبيب تلميذ المسيح هو كاتب هذا الإنجيل، من القدّيس إيريناوس أسقف ليون (+180 م) الذي يقول، بوضوح، إنّ يوحنّا الرسول هو من كتب هذا الإنجيل. أمّا أهمّيّة شهادة القدّيس إيريناوس، فتأتي من أنّه كان تلميذًا للقدّيس بوليكربوس أسقف إزمير، من أعمال تركيا الحاليّة، الذي كان بدوره تلميذًا للرسول يوحنّا.
هذا، أيضًا هو رأي الكنيسة في هويّة كاتب الإنجيل »الرابع«. فالشهادات القديمة عديدة حول هذا الأمر، من إكليمنضدس الإسكندريّ (+189)، إلى أوريجنّس معلّم الإسكندريّة (+203)، فالقدّيس إيرونيموس (القرن الرابع) الذي كتب أنّ أساقفة آسية الصغرى ألحّوا على الرسول يوحنّا أن يكتب إنجيلاً عن أقوال السيّد المسيح وأعماله التي كان الرسول يخبرهم بها باستمرار.
والحقيقة أنّ الإنجيل الرابع لم يذكر اسم مؤلّفه، بل يُظهر ميلاً إلى التكتّم بشأنه. إلاّ أنّ خاتمة الكتاب تتضمّن عبارة فيها إشارة صريحة إلى شخص الكاتب: »وهذا التلميذ هو الذي يشهد بهذه الأمور وهو الذي كتبها« (21: 24). والنصّ ذاته من البدء يبيّن أنّ هذا التلميذ هو »التلميذ الذي كان يسوع يحبّه والذي مال على صدره في أثناء العشاء، وقال له: »يا ربّ من الذي يسلمك؟«« (٢١: ٢٠)، وهو التلميذ نفسه الذي تسلّم أمّ يسوع كوديعة أمام الصليب، والذي سارع مع بطرس الرسول إلى قبر المسيح، صبيحة يوم الأحد، ودخله، وشاهد الأكفان، وآمن بقيامة الربّ من بين الأموات (٢٠: ٢- ١٠).
من هو يوحنّا الإنجيليّ؟
كان ابنًا لزبدى وسالومه (مرقس ١: ٩ و١٥: ٤٠، متّى ١٧: ٥٦)، وشقيقًا ليعقوب الكبير. مارس، في بادئ الأمر، مع والده وأخيه، مهنة صيّاد في بحيرة جنيسارت. ثمّ أصبح تلميذًا للقدّيس يوحنّا المعمدان، وأغلب الظنّ أنّه أقام اتّصالات مع الجماعات الروحانيّة التي أتت منها الوثائق المكتشفة في قمران، منذ بعض السنين. وهذا قد يفسّر أكثر من صفة من صفات مؤلّفاته.
يبدو القدّيس يوحنّا، في الأناجيل الثلاثة الأولى، ذا مزاج حارّ ومندفع، وعندما دعاه يسوع ليتبعه، لم يكن ذلك الشابّ المتكلّف في اللطف والوداعة، كما نتصوّره في بعض الأحيان، وقد سمّاه يسوع بحقّ هو وأخاه يعقوب »بوانرجس«، أي »ابني الرعد« (مرقس ٣: ١٧). كما ثارت ثائرته عندما رأى رجلاً من غير أتباع المسيح يطرد الشياطين باسم يسوع (مرقس ٩: ٣٨). واقترح مرّةً هو وأخوه أن تنزل نار من السماء، لتلتهم السامريّين الذين لم يستضيفوا يسوع (لوقا ٩: ٥١- ٥٥). كما أبدى رغبة في احتلال مكان الصدارة في ملكوت السماوات بالاتّفاق مع أمّه وأخيه (متّى ٢٠: ٢٠- ٢٣).
اعتُبر من أعمدة الكنيسة الأولى (غلاطية ٢: ٩- ١٠)، واستقرّ في أفسس، ورئس فيها الكنائس التابعة لولاية آسيا الرومانيّة. ويمكن تحديد تاريخ مجيئه بشكل تقريبيّ بين العامين 67 و70م، بعد أداء بولس وتيموثاوس لرسالتهما في أفسس، وقبل الحرب اليهوديّة. ثمّ نفي في عهد الأمبراطور دوميسيانوس إلى جزيرة باتموس حيث تراءى له ما دوّنه في سفر الرؤيا (رؤيا ١: ٩)، وعند عودته إلى أفسس بعد موت دوميسيانوس، ساس فيها كنائس آسيا حتّى موته.
تدهورت صحّته في أواخر حياته بسبب الشيخوخة، حتّى اضطرّ تلاميذه إلى نقله محمولاً إلى اجتماعات العبادة. ولم تسمح له آنئذ حالته الصحّيّة بالكلام طويلاً، فكان يكتفي بتكرار النصيحة التالية: »يا أولادي الصغار، ليحبّ بعضكم بعضًا«. توفّي في أفسس متقدّمًا في السنّ في عهد الأمبراطور تراجان (98- 117م).
الإنجيل الروحيّ
سمّي إنجيل يوحنّا بالإنجيل الروحيّ منذ القرون الأولى. ويذكر يوسابيوس القيصريّ، المؤرّخ الكنسيّ المعروف، على لسان العلاّمة إكليمنضدس الإسكندريّ: »وأخيرًا رأى يوحنّا أنّ معالم سيرة المسيح الخارجيّة قد وُصفت في الأناجيل الأولى، فكتب هو، بناء على رجاء من تلاميذه، وبدافع من الروح القدس، »الإنجيل الروحيّ«. وبالحقيقة إنّ إنجيل يوحنّا شهادة إنسان وخبرة جماعة »أرشدهم الروح القدس إلى الحقّ كلّه« في أثناء تأمّلات طويلة«.
هو الكتاب الأكثر تأثيرًا ومعرفة في صوغ عقائد الكنيسة الأولى. ويشبَّه من وجوه عديدة بتاج الكتاب المقدّس. ففيه يمزج القدّيس يوحنّا التاريخ بالتفسير، والسيرة باللاهوت، بطريقة تكشف أنّ يسوع التاريخ هو المسيح المنتظر وابن اللَّه.
فالقدّيس يوحنّا اللاهوتيّ هو الأوّل الذي تعمّق في تدبير المسيح المنظور، ليبلغ عبره السرّ غير المنظور: »اللَّه لم يره أحد قطّ« (١: ١٨). فكلّ الإنجيل حركة من المجد المحجوب إلى المجد المعلن. فالجزء الأوّل منه يتناول مجد المسيح المحجوب، يشار إليه من وقت لآخر عبر »آيات معيّنة«. والجزء الثاني يتناول إظهار ذلك المجد عبر الصليب والموت والقيامة.
هدف كتابة الإنجيل
أوضح الإنجيليّ بنفسه الهدف الأساس للكتابة في أواخر الإنجيل، »وإنّما كتبت هذه لتؤمنوا بأنّ يسوع هو المسيح ابن اللَّه، ولتكون لكم إذا آمنتم الحياة باسمه« (٢٠: ٣١) . إذًا، الهدف بشاريّ رعائيّ عقيديّ ولاهوتيّ. يحاول أن يبرهن أنّ يسوع المسيح هو الماسيّا، ابن اللَّه وكلمته الأزليّ. هذه هي غاية الإنجيل كما توضّحت في مطلعه (١: ١- ٥). لا تتكرّر حوادث ميلاد المسيح التاريخيّة في إنجيل يوحنّا كما جاءت في الأناجيل الثلاثة الأولى، بل تكتمل تلك الأمور التي لم تذكرها تلك الأناجيل، أو جاءت على ذكرها بشكل عابر لذلك، لأنّ غاية يوحنّا الإنجيليّ أن يكمل الكتابات التي سبقته. إنّه شهادة للحقّ وللحقيقة الإلهيّة المعروفة في يسوع المسيح نفسه. فهو يقدّم إنجيله للعالم كشاهد على أنّ يسوع هو المسيح، ابن اللَّه.
الأهمّ، في إنجيل يوحنّا، أنّه ركّب »إنجيله« على بعض أعمال السيّد المسيح أسماها آيات، وألحقها بتعاليم مطوّلة ألقاها السيّد، وهكذا تتوالى وتتناغم في إنجيله الآية فالتعليم. وكمثال: يطعم المسيح خمسة آلاف، ثمّ يشرح مغزى العجيبة. يشفي الرجل الأعمى، ثمّ يتابع الكلام على نفسه أنّه نور العالم. ينتقي القدّيس يوحنّا أحداثًا تتعلّق بالسيّد المسيح، وينسج حولها التعليم.
إنجيل يوحنّا روحيّ أيضًا. وظروف الزمان الذي كتب فيه كانت تتطلّب هذا النوع من الكتابة:
١- عالم الوثنيّين بدأ يتعرّف إلى الحركة المسيحيّة. ففي أواخر القرن الأوّل، كانت المسيحيّة قد انفصلت عن الناموس اليهوديّ. ولم يكن من علاقة بين الكنيسة المسيحيّة والناموس اليهوديّ.
٢- شهد القدّيس يوحنّا حقيقة أنّ الكنائس توجد وتستمرّ بدون بنية واحدة لها تنظيم واحد وعبادة واحدة وعقيدة واحدة. جامعيّة الكنيسة هذه كانت سيّئة جدًّا بسبب الجماعات المنفصلة عن الكنيسة والصعوبات والمشاكل التي تواجهها الكنيسة .
٣- الهرطقات، وبخاصّة الحركة الغنوصيّة التي بدأت أيّام بولس الرسول وقويت أواخر أيّام يوحنّا الإنجيليّ، حتّى إنّها هدّدت المسيحيّة بتحوّلها إلى مذهب تأمّليّ، تفرغ تجسّد المسيح من كلّ قيمة ومعنى. كتب إنجيل يوحنّا كردّ ناجح على هذه الحركة. حاولت الحركة الغنوصيّة تخريب البعد التاريخيّ لحياة المسيح بادّعائها أنّه كان مبدأ روحيًّا فقط، وليس حضورًا حقيقيًّا. أرادت أن تظهر المسيح ككاشف للحقيقة الخفيّة التي بفعل الحصول عليها يبلغ الإنسان حياة أسمى.
٤- واجه الفكر المسيحيّ نظريّات يونانيّة أكثر ممّا واجهها الفكر اليهوديّ، لأنّ الفكر المسيحيّ خاطب الوثنيّة مباشرة. وهكذا صارت الفلسفة اليونانيّة أكثر تقبّلاً واحتكاكًا مع غاية المسيح ومفهوم الدين الجديد.
إذًا، كتب القدّيس يوحنّا إنجيله في وقت ظهرت فيه اهتمامات جديدة وكثيرة. وعرض فيه كلّ هذه الأفكار. رأى القدّيس يوحنّا وفهم أنّ هذه الأفكار والتعاليم الغريبة قد تؤثّر في المسيحيّة، وتحوّلها إلى فرقة أسراريّة تأمّليّة نظريّة . لذلك صوّر حياة يسوع المسيح ابن اللَّه في إطاره التاريخيّ. وأظهر أنّ كلّ حقيقة كشفت للبشر صارت بيسوع المسيح، وأنّه لا يمكن تجاوز هذا المسيح ولا تجاوز رسالته. آمن بضرورة العودة إلى الوحي كما تجلّى في التاريخ. فعمل كلّ ما بوسعه لينسج إنجيله من حياة المسيح وتعليمه.
من مواضيع الإنجيل:
١- المسيح = أنا هو
عندما تراءى اللَّه لموسى النبيّ في برّيّة سيناء، وكلّمه من العلّيقة الملتهبة، عرّف عن نفسه بأنّه: »أهييه أشير أهييه« الذي معناه: »أنا هو، أنا الكائن، أنا الذي أكون«... ويوحنّا الإنجيليّ العارف جيّدًا التراث العبريّ، والهادف من إنجيله إلى التعريف بيسوع مسيحًا وابنًا للَّه، ينقل في إنجيله تعريف السيّد المسيح عن نفسه بـ»أنا هو« في مواضع شتّى.
ويرد هذا التعبير »أنا هو« في إنجيل يوحنّا في شكلين:
الشكل الأوّل: »أنا هو« بالمطلق
أطلق يسوع هذا التصريح في عيد المظالّ، أضخم عيد شعبيّ، وفي أورشليم وفي الهيكل تحديدًا. وفي أثناء مجادلته أحبار اليهود وفقهاءهم الكبار »أنتم من أسفل، وأنا من عل. أنتم من هذا العالم وأنا لست من هذا العالم. لذلك قلت لكم: ستموتون في خطاياكم. فإذا لم تؤمنوا بأنّي أنا هو، تموتون في خطاياكم« (٨: ٢٣- ٢٤).
تجاهلوا إعلانه، وسألوه: »ومن أنت؟«، فأجابهم: »أنا ما أقوله لكم منذ بدء الأمر« (24). فلم يفهموا. فعاد وقال مؤكّدًا: »متى رفعتم ابن الإنسان عرفتم أنّي أنا هو« (28). وتطوّر الحوار، فختمه السيّد المسيح: »الحقّ الحقّ أقول لكم: قبل أن يكون إبراهيم، أنا هو« (58). عندها فهموا ما يقصد: »فأخذوا حجارة ليرموه بها« (59). إنّه يدّعي لنفسه اسم اللَّه الذي تراءى لموسى.
ما قاله علانية في الهيكل، أعلنه للتلاميذ قبل الآلام، وفي العشاء السرّيّ تحديدًا في الإصحاح ١٣: ١٩ »منذ الآن أكلّمكم بالأمر قبل حدوثه حتّى إذا حدث تؤمنون بأنّي أنا هو«.
كذلك عند القبض عليه في بستان الزيتون في الإصحاح 18: »وكان يسوع يعلم جميع ما سيحدث له، فخرج وقال لهم: من تطلبون؟ أجابوه: يسوع الناصريّ. فقال لهم: أنا هو. وكان يهوذا الذي أسلمه واقفًا معهم، فلمّا قال لهم: أنا هو، رجعوا إلى الوراء ووقعوا إلى الأرض« (١٨: ٤- ٦). الوقوع إلى الأرض والخوف يدلاّن على أنّهم فهموا قصد الربّ بـ»أنا هو« ملحقًا بها كلمات تعني أنّه يقصد: أنا من تطلبون. »فسألهم يسوع ثانية: من تطلبون؟ قالوا: يسوع الناصريّ. أجاب يسوع: قلت لكم إنّي أنا هو، فإذا كنتم تطلبوني أنا، فدعوا هؤلاء يذهبون« (١٨: ٧- ٨).
الشكل الثاني: »أنا هو« موصوفًا
يستعمل الربّ يسوع عبارة »أنا هو«، ويلحق بها صفة ما له. فتصبح عبارة حاملة توريات جميلة جدًّا. هذه الطريقة يستعملها بشكل متواتر في إنجيل يوحنّا. فيصف نفسه بخبز الحياة، نور العالم، الراعي الصالح، النور...
١- »أنا هو خبز الحياة من يقبل إليّ فلن يجوع« (٦: ٣٥)
٢- »أنا هو نور العالم من يتبعني لا يمشي في الظلام« (٨: ١٢)
٣- »أنا هو الراعي الصالح أعرف خرافي وخرافي تعرفني« (١٠: ١٤)
٤- »أنا هو الطريق والحقّ والحياة لا يمضي أحد إلى الآب إلاّ بي« (١٤: ٦).l