2012

07 – سبعون - نهضة الكنيسة رعيّة - جان يازجي - العدد 2 سنة 2012

 

نهضة الكنيسة رعيّة

جان يازجي

 

تتردّد، في تراثنا الحركيّ، كلمة »النهضة«، فنستخدمها، وفق ما أرى، دلالة على فعل النهوض والعمل، وندلّ بها على هويّة المنضوين تحت لواء حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، ونرتقي عبرها إلى حالة نرجوها للكنيسة كلّها، فتصبح الكنيسة حركة.

فهمنا النهضة عمومًا تغيّرًا في حراك الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة، أي تحرّكًا بعد جمود، ويقظة بعد سبات، فكانت حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، كما عبّرت عن ذاتها في مبادئها الستّة، إطارًا لحراك جديد في الواقع الأرثوذكسيّ، أعادت الكنيسة، عبره، اكتشاف تراثها، وانطلقت به إلى عالمنا المعاصر. فكانت نهضويّة الحركيّين مرتبطة بتمثّلهم لهذا التراث، وعيشهم وفقه، وظهر ذلك بإثمارهم في الكرمة المباركة التي غرستها يمين الربّ.

والحركة، كفعل نهضة في الكنيسة، أدركت، منذ البدء، أنّ نهضة الجماعة الكنسيّة يعوزها، أوّل ما يعوزها كاهن متعلّم، عارف، مثقّف، واعٍ، وفاعل. فوضعت نصب عينيها هدفًا هو نشر اليقظة في حقل الربّ، وجني ما ينضج من أبناء الكنيسة، ليكونوا كهنةً، ورهبانًا، وراهبات، ودعا الحركيّون إلى تفعيل مبدأ التكريس في صفوفهم...

لا شكّ في أنّ الواقع الأنطاكيّ اليوم، يشهد حسنًا لجهة تلبية الحركة للروح الفاعل فيها، خصوصًا في مجال الفعل النبويّ المومأ إليه أعلاه، لكنّه يعجّ بعلامات وجوب الانتقال إلى مرحلة جديدة تكمل وظيفة الكاهن العالم، للوصول إلى حالة الكاهن الراعي.

تتعدّد حالات الاكتفاء من النهضة والحركة النهضويّة، استنادًا إلى تحقّق الهدف المشار إليه، والحقيقة أنّ غنى الكنيسة الأنطاكيّة اليوم بالإكليروس حامل الشهادات العليا، أمر يملأ القلب فخرًا وعزاءً، وحافزًا على المضيّ إلى الأمام، ما يجعل حالة الاكتفاء مؤشّر عدم اكتفاء.

لا أريد أن نرى النهضة فصلاً من فصول الحياة في الكنيسة، فهي ليست ربيعًا مثلاً، على ما هو دارج في هذه الأيّام، فالحالة النهضويّة، كتغيّر في حراك الكنيسة، لا تعني الانطلاق من سكونٍ إلى تحرّكٍ فقط، لكن أيضًا تغييرًا في الحالة الراهنة مهما كانت إيجابيّتها، فهي تجاوز دائم للحالة الحاضرة، إنّها امتداد إلى الأمام.  »لست أحسب نفسي أنّي قد أدركت. ولكنّي أفعل شيئًا واحدًا: إذ أنا أنسى ما هو وراء، وأمتدّ إلى ما هو قدّام«(١)، هي إبحار في الملكوت مع روح الربّ وبه.

»النهضة الأرثوذكسيّة مسيرنا نحو الروح القدس ونزول الروح القدس علينا«(2). ومعلوم أنّ الوعاء الحاضن والكيان المتحرّك المعنيّ بالنهضة إنّما هو الكنيسة بكلّ كينونتها، بذلك يكون الانتقال من حالة الإكليروس المتعلّم إلى الإكليروس الراعي هو المطلب التالي منطقيًّا. وذلك ليس لأنّ هناك تعارضًا بين الحالة المعرفيّة عند الإكليروس والحالة الرعائيّة لديهم. لكن على العكس لأنّهما حالتان تتكاملان بشكل مثمر جدًّا إذا أحسنّا التهيئة لذلك.

ارتفعت خلال العقود الماضية، والعقد الأخير خصوصًا، أصوات مقارعة بين الحركة وبعض الإكليروس. وبعض هذا الإكليروس هم آباء تربّوا في صفوف الحركة فعلاً وقولاً. ونحن نستطيع الارتياح إلى تحاليل ترصد أخطاءً هنا وهناك، عند هذا الطرف أو ذاك، ولن يكون ذلك بعيدًا عن الحقيقة، لكنّ هناك وجهًا آخر للأمر أودّ العبور إليه.    

في شرح المبدأ الثالث، تتبنّى الحركة أنّ: »الأرثوذكسيّة لا تعرف السيطرة الظاهريّة على العالم، وتشجب الاستبداد الإكليريكيّ«. وتأسيسًا على ذلك، أطرح المسألة كما يلي: كيف تستمرّ النهضة في الكنيسة تحرّكًا بالروح القدس شعبًا ورعاة، من دون الوقوع في شبهة الاستبداد الإكليريكيّ؟

تؤكّد روحانيّة الكنيسة الأرثوذكسيّة، أنّ جنديّ الربّ تكتنفه حروب وتجارب كثيرة، وهذا ما يتعرّض له بالأكثر الآباء والرعاة . لذلك من الواقعيّ جدًّا الحديث عن أهواء تحارب آباءنا كما تحاربنا، وأهمّها الكبرياء. ولا ننسى أنّ العلم آفته أن نستكبر، والسلطة آفتها أن نستبدّ، ما يعرّض هدف البنيان في الكنيسة إلى الخطر.

لكلّ ذلك، ووفاءً للروح الذي أطلق الحركة في أنطاكية، وفي إطار تحقيق نهضة روحيّة في الكنيسة بجميع أبناء الكنيسة، أرى واجبًا أن نلاحظ الواقع الرعائيّ، الذي لحظته معظم المؤتمرات الحركيّة، وكان محور وثائق ورسائل إلى رعاة الكنيسة.

أقترح أن نلاحظ الواقع الرعائيّ كمبدأ وهدف. وهذا يشمل تنمية الحسّ الرعائيّ في الشعب والرعاة معًا. فالكاهن راعٍ للشعب، والشعب راعٍ لراعيه. وفي هذا المجال، أذكر ملاحظتي الشخصيّة في أكثر من مناسبة، حيث يصبح هناك حوار طرشان بين الكاهن وبعض أفراد رعيّته الفاعلين في الكنيسة على خلفيّة الشكّ في ردّ الفعل عند الطرف الآخر، فكلاهما يخشى رفضًا من الآخر، ما يجعل من الجمود، أو تحقيق الأقل، حالةً سائدةً.

كذلك يصير من المهمّ طرح مشكلة رعاية الأسقف لكهنته على طاولة البحث والعلن، كجزء أساس في سياق رعايته أسقفيّته أو أبرشيّته، لئلاّ تبقى رهن الإرادات والأهواء، والرعاية المطلوبة تكون روحيّة كما هي مادّيّة، بالقدر ذاته والأهمّيّة عينها.

على صعيد كوادر الحركة، علينا بحث هذا الموضوع لوضع رؤية تنفيذيّة تحوّل »الشعب الملتفّ حول كاهن« إلى رعــيّة للـربّ. ولا أنسـى، هـنا، الجـانب المتعــلّق بقـانون مجالـس الرعايـا مـن دون أن أتقيّد به. فهو، وإن أتاح مجالاً لمشاركة الشعب في حياة الكنيسة، إلاّ أنّه لا يضمن رعاية صحيحة ومتكاملة. الأمر ينطلق من كينونة الكنيسة جسدًا للربّ، ليصبّ في الكنيسة المؤسّّسة، فيحييها.

تدبير الواقع الرعائيّ في الكنيسة يفتح الباب واسعًا أمام التعمّق في نهضتنا الروحيّة(3)، وعيش الحياة المسيحيّة بشكل أكثر كمالاً(٤)، لإنتاج حالة حضاريّة كنسيّة(٥) لا تتعثّر بالكنيسة المؤسّّسة، بل ترتقي بها بعيدًا عن الاستبداد الإكليريكيّ إلى مراقي اللَّه، حيث تصبح القضيّة الاجتماعيّة مجالاً لشهادة الكنيسة(٦) ووضع الحلول والرؤى. فتصير الكنيسة هي مفصل اللقاء بالآخر، في الوطن أو خارجه(٧). تنقل خبرة تجلّيات الربّ في أنطاكية إلى الآخر الشريك في الوطن (مسيحيّ أو غيره)، والآخر الموجود خارج أنطاكية.

لا بدّ لنا من تطوير هذه الخبرة خصوصًا، لمعالجة الواقـــع الأرثوذكسيّ العالميّ اليوم، فإنّ هاجس الرعاية يتـمّ التعـامـل معـه بشكــل هرمــيّ تراتبــيّ وحيـد الاتّجاه، مـا يجعــل الواقـــع الحالــيّ المزعـج نتيجة طبيعيّة ومنطقيّة.

»كلّكم راعٍ وكلّ راعٍ مسؤول عن رعيّته: أنا مسؤول عنك وعنه، وأنت مسؤول عنّي وعنه، وهو مسؤول عنك وعنّي«(8)، لا تصحّ هذه العبارة إلاّ في كنيسة يعرف أبناؤها أنّهم مكرّسون، وأنّهم يتحرّكون بمواهب الروح القدس، وهذا ما نسعى إليه جميعًا »احفظ الوديعة الصالحة بالروح القدس الساكن فينا«(٩).

رعيّة حيّة، وراعٍ صالحٌ، هي أيقونة الكنيسة في هذا العالم، وهي نبع مواهب وإمكانات، ومكان تجلٍ للروح القدس، لذلك أصلّي أن يعيننا الربّ على أداء دورٍ لتعزيز هذه الأيقونة التي تستحقّ كلّ سجود.

والمجد للثالوث القدّوسl

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search