تكريم يسوع عند المسيحيّين الأوائل
ريمون رزق
١- محوريّة شخص يسوع
بزغت المسيحيّة في زمن كانت الحركات والتيّارات الدينيّة تعجّ فيه. وعلى وجود بعض وجوه تطابق خارجيّة بينها وبين المسيحيّة الناشئة، تميّزت المسيحيّة بمحوريّة شخص يسوع.
٢- يسوع المكرَّم والمعبود
منذ بدء المسيحيّة، نجد أدلّة تؤكّد علاقة خاصّة بين يسوع واللَّه، وتدعو إلى تكريمه وعبادته. هذه لم تظهر تدريجيًّا أو بفعل عوامل خارجيّة، بل بسرعة هائلة وفي أجواء مسيحيّة. والثابت أنّ المسيحيّين استعملوا عبارات ومفاهيم وتقاليد دينيّة استقوها من مجتمعهم. ولكنّ كلّ ما يتعلّق بعبادة يسوع وتكريمه لا نجد ما يشبهه في الجماعات الدينيّة المعاصرة الأخرى.
٣- تكريم لا ينافي الإيمان باللَّه الواحد
هذا التكريم العباديّ قام ضمن تأكيد صارم أنّ اللَّه واحد. فالمسيحيّون الأوائل أكّدوا كون اللَّه واحدًا، ورفضوا، رفضًا قاطعًا، كلّ آلهة العالم الرومانيّ، والكيانات الإلهيّة المتعدّدة التي نادت بها تيّارات غنوصيّة باعتبارها يسوع واحدًا منها. وكشفوا معنى ألوهة يسوع المرتبط بهذا الإله الواحد بقولهم عنه إنّه: ابنه أو مسيحه أو كلمته أو صورته. ولم يتجاوز هذا المعنى إلاّ قلّة من عامّة الشعب خلطت بين يسوع وأبيه، أو أعطت الابن مقامًا أعلى.
٤- كيف لنا أن نفهم هذا التكريم؟
للإجابة، يوجد منطلقان. واحد يتجاهل كلّ نقد تاريخيّ، فيقول إنّ يسوع اعتبر إلهًا لأنّه المسيّا وابن اللَّه وأنّه، في بشارته، أظهر مسيانيّته وألوهته لتلاميذه. وثانٍ أنّ »مدرسة تاريخ الأديان«، التي نمت في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع العشرين بخاصّة في ألمانيا، سعت إلى أن تنظر إلى نشأة المسيحيّة ضمن إطار تاريخ الحقبة الرومانيّة العامّ. فوصل بعض أتباع هذه النظرة إلى إظهار المسيحيّة كما لو أنّها مظهر خاصّ من تأليه الأبطال أو ظهور آلهة جديدة. وزعموا أنّ تكريم يسوع إلهًا لا يُفهم إلاّ نتيجة لتأثير المجتمع الوثنيّ في الحركة المسيحيّة. وعلى أنّ هاتين النظرتين لهما أتباعهما، يمكننا القول إنّهما نظرتان ساذجتان تخلوان من الرصانة. صحيح أنّه بالإمكان النظر إلى تكريم يسوع كظاهرة تاريخيّة، إذ وجدت في التاريخ، إلاّ أنّها تبقى ظاهرة فريدة يستحيل فهمها باللجوء إلى عموميّات نظريّات تاريخ الأديان وتبسيطاته.
٥- لماذا ظاهرة يسوع فريدة؟
- تظهر رسائل بولس أنّ العبادة ليسوع كانت سائدة في الأوساط التي كتب إليها (والجماعات المسيحيّة كلّها، علمًا أنّ التعبير عنها أخذ، أحيانًا، أشكالاً مختلفة). وبما أنّ أوّل رسائل بولس كُتبت حوالى السنة الخمسين، فهذا يعني أنّ التعبير عن هذه العبادة ترسّّخ باكرًا، أي في السنوات العشرين الأولى من انطلاق المسيحيّة.
- لا توجد، في العالم الرومانيّ، أيّ ظاهرة دينيّة أخرى ترتبط بالتقليد اليهوديّ الذي يؤكّد وحدانيّة اللَّه، وتمارس تكريمًا عباديًّا لشخص ثانٍ واحد مع اللَّه.
- هذه العبادة كانت محوريّة في الجماعات المسيحيّة القديمة، واكتسبت أهمّيّة مفصليّة في التطوّر التاريخيّ للفكر المسيحيّ.
٦- تباين بين نظرة اليهوديّة والمسيحيّة حول وحدانيّة اللَّه
- كان الإيمان اليهوديّ بوحدانيّة اللَّه يرفض، بشدّة، عبادة أيّ صورة أو مظهر إلهيّ غير إله إسرائيل الواحد. ولم يقتصر هذا الرفض على آلهة الشعوب الأخرى، بل امتدّ إلى كلّ ما يمكن اعتباره »مرسلاً« إلهيًّا، أي الملائكة وأبطال العهد القديم، أمثال موسى وغيره.
- العبادة ليسوع كانت، إذًا، غير مألوفة يهوديًّا. وعلى هذا، تبنّى المسيحيّون القدامى الإيمان اليهوديّ بوحدانيّة اللَّه. فإنّ بولس، الآتي من اليهوديّة، أعلن إيمانه »بالإله الواحد«، »الآب مصدر كلّ شيء« الذي لا يمكن تشبيهه »بالآلهة المزيّفة« (1كورنثوس 8: 4- 6) التي يصفها »بالشياطين« (1كورنثوس 10: 20 و21). وإلى بولس، علّى، في أواخر القرن الأوّل، كاتب الرؤيا، وهو من أصل يهوديّ أيضًا، عبادة اللَّه الواحد (4: 5، 9: 7، 15: 11 و19، 14: 6 و14). وفيما منع عبادة ملاك اللَّه (19: 10، 22: 8)، تراه، في الإصحاح الخامس، يصف عبادة الحمل (يسوع) مع اللَّه في السماوات. هذا لا يعني أنّ أحدًا اعتبر يسوع إلهًا آخر إلى جانب اللَّه. دائمًا، كانت صفته الإلهيّة ودوره الخلاصيّ يأتيان من قلب علاقته الخاصّة بهذا الإله الواحد (أنظر: يوحنّا 5: 23؛ فيلبّي 2: 9؛ 1يوحنّا 2: 22 و5: 9). يصعب تصوّر كيفية بروز هذه العبادة المزدوجة وانتشارها بالسرعة التي انتشرت بها وقبولها من أناس يؤكّدون تعلّقهم بالتقليد اليهوديّ القائل بوحدانيّة اللَّه. إنّهم يؤكّدون وجود كيانين، اللَّه ويسوع، ويحرصون على عدم اعتبارهما إلهين منفصلين. فالصلوات المقدّمة للَّه هي دومًا »بواسطة« أو »باسم« يسوع.
٧- محوريّة يسوع نتجت من تأثير تعليمه وبشارته في أتباعه
هذا التأثير الفائق الأهمّيّة أجبر الذين سمعوه أن يتّخذوا موقفًا تجاهه. كان عليهم إمّا أن يقبلوا أن يتتلمذوا عليه، كما فعل تلاميذه، أو أن يرفضوه، كما فعل مَنْ عادوه.
٨- هل من سبب آخر يفسّر شركة العبادة ليسوع مع اللَّه؟
بالتأكيد. كلّ النصوص والمراجع المسيحيّة القديمة تظهر أنّ المسيحيّين الأوائل، بعد صلب الربّ، وُهبوا تجدّدًا عميقًا في حسّهم الروحيّ جعلهم يطرحون على أنفسهم ضرورة إعادة النظر بطريقة ممارسة العبادة للَّه الواحد. فبولس، مثلاً، أكّد ما يشكّل تقليدًا مقدّسًًا في الأوساط المسيحيّة، أي أنّ يسوع »مات من أجل خلاصنا«، وأنّه »قام في اليوم الثالث، كما في الكتب« (1كورنثوس 15: 3 و4). وفي السياق عينه، تكلّم على ترائيات ليسوع تؤكّد قيامته. هذه الترائيات بيّنت لمختبريها أنّ اللَّه، الذي أقام يسوع، منحه نمطًا فريدًا وكيانًا مجيدًا وحياةً جسديّةً ذات منحى أخرويّ، وكلّفه مهمّة الخلاص، وأنّ الذين تراءى لهم بعد قيامته هم، أيضًا، مكلّفون، إلهيًّا، أن يدعوا الناس إلى الاعتراف بأنّ المقام، الذي رُفع يسوع الحيّ إليه، هو علامة أخرويّة للخلاص. فهموا ما وُهبوه إعلانًا من اللَّه تقضي طاعته أن يقدّموا العبادة للمسيح. أمّا هذا »الإعلان« الإلهيّ، فقد أخذ مظاهرَ عديدةً، منها:
أ- رؤية يسوع قائمًا وممجّدًا (أنظر مثلاً: 2 كورنثوس 12 : 1 - 4 ؛ أعمال 7 : 54 - 56 ؛ 1كورنثوس 14: 26؛ رؤيا 1: 14).
ب- الأناشيد الملهمة التي كانت تنبع من المسيحيّين في أوقات التهابهم الروحيّ والتي اعتبروها كما لو أنّها أقوال نبويّة (أنظر مثلاً: 1كورنثوس 14: 26، فيلبّي 2: 6- 11؛ كولوسّي 3: 16).
ج- نصوص عديدة من العهد القديم طبّقها المفسّرون الملهمون على يسوع. وهذا التطبيق الكتابيّ، الذي ابتدأ في القرن الأوّل ثمّ توسّّع في القرن الثاني، أخذ الأشكال التالية:
١- إبراز النصوص براهينَ من العهد القديم تبيّن أنّ يسوع حقّق النبوءات (أنظر مثلاً: متّى 1: 22، 2: 15، 12: 17، 13: 25، 21: 4، 26: 54 و56، 27: 9؛ مرقس 14: 49، 15: 28؛ لوقا 4: 21، 24: 44؛ يوحنّا 12: 38، 18: 13، 15: 25، 19: 24 و36).
٢- قراءة رمزيّة للعهد القديم للتفتيش عن كلّ شخص أو مناسبة يمكن أن تشير إلى يسوع (أنظر: أشعياء 45: 23 وقابل مع: فيلبّي 2: 10 و11؛ وأشعياء 6: 1 وقابل مع: يوحنّا 12: 41؛ وانظر أيضًا: لوقا 24: 27- 47؛ يوحنّا 3: 14 و15؛ رومية 5: 14؛ 1كورنثوس 10: 1- 13؛ 2كورنثوس 3: 12- 16؛ عبرانيّين 2: 1- 4، 3: ١- ٦، 7: 18 و19، ٢٣- ٢٨، ٨: ١- ٧، ١٠: ١؛ يوحنّا 3: 14- 15).
٣- اعتبار الظهورات الإلهيّة في العهد القديم ظهورات لابن الله (أنظر مثلاً: يوحنّا 1: 1 و2؛ 1كورنثوس 8: 4- 6، 10: 4؛ فيلبّي 2: 6- 8؛ كولوسّي 1: 15- 17؛ عبرانيّين 1: 1- 3).
٩- الأسباب المتعلّقة بالمحيط الدينيّ في الحقبة الرومانيّة
ما لا شكّ فيه أنّ المسيحيّين الأوائل تأثّروا بمحيطهم اليهوديّ والوثنيّ. التأثير بالمحيط اليهوديّ ظهر في التشديد على وحدانيّة اللَّه وفي انتظار المسيح الآتي، وتاليًا في بعض شعاراته الدينيّة (المعموديّة والتشديد على التوبة مثلاً). وبما أنّ الاجتماع حول مائدة، تعتبر طقسيّة، كان رائجًا عند اليهود والوثنيّين في آن، فعلى فرادة اجتماع المسيحيّين في العشاء السرّيّ تيمّنًا بما فعله الربّ في علّيّة صهيون، كان اجتماع المسيحيّين حول المائدة محور ممارساتهم.
غير أنّ رفض اليهود المسيحيّين الأوائل، ومحاربة الوثنيّين لهم، فرضا على أتباع يسوع أن يبيّنوا ما يفرّقهم عنهما. فمثلاً، عندما يتكلّم بولس على »الإخوة الخونة« (غلاطية 2: 4 و5)، إنّما يعني المسيحيّين الآتين من اليهوديّة الذين أرادوا فرض الختان على الجميع. هذا جعله يعلّي أولويّة يسوع على التوراة.
هذه العوامل أثّرت كلّها في المجتمع المسيحيّ، وجعلته يعي إيمانه بشكل أفضل، ويوضح قيمة كون يسوع يتمتّع بالعبادة ذاتها التي تجب للَّه.
لننظر، الآن، إلى آثار المسيحيّين الأوائل، لنفهم، بدقّة، كيف عاشوا هذه العبادة.
١٠- رسائل بولس الرسول
على أنّ علماء عديدين يقرّون، اليوم، بوجود كتابات سبقت بولس (مجموعة أقوال ليسوع، أو المصدر Q عرفها كتّاب العهد الجديد واستعملوها)، يبقى أنّ بولس هو أوّل من وضع نصوصًا كاملةً وصلت إلينا. ولذلك نبدأ به.
بما أنّ بولس قد اهتدى إلى الإيمان بعد موت الربّ ببضع سنوات، فهو ينتمي إلى فترة ولادة المسيحيّة التاريخيّة التي علم بمعتقداتها وممارساتها فيما كان يضطهدها (1كورنثوس 15: 9؛ غلاطية 1: 13 و14؛ فيلبّي 3: 6). وعليه، فإنّ رسائله، التي وجّهها إلى جماعات موجودة، تشير إلى تقاليد إيمانيّة وعباديّة، أكثر قدمًا، تتمحور حول شخص يسوع. فلنلاحظ بعضها.
أ- يدعو بولس، مرارًا، يسوع الـChristos من دون أن يسعى إلى أن يبرهن أنّه المسيح فعلاً. وهذا يدلّ على إيمان قرّائه بذلك. ويشير، مرارًا أيضًا، ومن دون أيّ تفسير إضافيّ، إلى أنّ المسيحيّين هم »في المسيح« و»في المسيح يسوع« (رومية 12: 5، 16: 3 و7 و9 و10؛ 1كورنثوس 4: 15).
ب- يعطي بولس، دومًا، لفظة Christos المعاني المسيانيّة والملوكيّة التي تقولها اليهوديّة، ويبيّن معانيها الجديدة التي تخصّ المسيحيّة. يقول، مثلاً، إنّ يسوع، لكونه المسيح، مات »من أجلنا« وقام (رومية 5: 7 و15، 8: 11 و15 و20، 14: 9 و15؛ غلاطية 2: 21، 3: 13). وفي 1كورنثوس 15: 1- 11، الذي يجمع الباحثون على أنّه يعبّر عن إيمان كنيسة أورشليم، يلخّص الرسول الإيمان المسيحيّ بأنّ »المسيح مات من أجل خطايانا كما في الكتب، وأنّه وضع في قبر، وأنّه قام في اليوم الثالث، كما في الكتب«.
ج- يتبنّى بولس لقب يسوع: »الابن« او »ابن اللَّه«. والثابت أنّ التعابير الواردة في رومية 1: 3 و٤؛ 1تسالونيكي 1: 10، هي تعابير قديمة تعبّر عن إيمان الأوائل باسم يسوع.
د- أيضًا، يستعمل بولس لقب السيّدKyrios، الموازي لأدوناي أو مارياح الذي كان يستعمله اليهود الأتقياء بدلاً من الاسم العبريّ للَّه، أي يهوه، والذي توجّهوا به إلى يسوع بعد اهتدائهم. ونعرف، في متابعتنا رسائله، أنّه أدخل فيها عبارات آراميّة من دون أن يترجمها أو يفسّرها. ومنها عبارة »ماران أتا«، أي تعال، يا سيّد (1كورنثوس 16: 22)، التي كانت توجّه إلى يسوع الظافر بهدف طلب حضوره في الليتورجيا أو مجيئه الأخير. ومنها لفظة أبّا، أي أُبَيّ (غلاطية 4: 6). أن يستعمل بولس عبارات آراميّة (من دون ترجمة أو تفسير)، فيما يكتب إلى كنيسة تضمّ مهتدين أمميّين يتكلّمون اليونانيّة، يعني أنّهم كانوا يعرفون ما يعرفه أخوتهم الآتون من اليهوديّة، ويستعملونه في اللقاء الليتورجيّ، في توجّههم إلى اللَّه ويسوع. وهذا يدلّ على أنّ الإيمان بيسوع سيّدًا يعود إلى الحقبة الأولى من انتشار المسيحيّة.
هـ- لا يبدو أنّه كان يوجد خلاف بين الجماعات المسيحيّة على الإكرام الواجب ليسوع، وإلاّ لكان ذكره بولس. يظهر من رسائل بولس أنّ هذه الجماعات تعتبر كلّها أنّ يسوع كائن إلهيّ يستحقّ العبادة مع اللَّه، مع كونه إنسانًا أعطانا الخلاص بموته وقيامته. من الواضح أنّ هذه العبادة وما يتعلّق بها من معتقد بزغت في السنين الأولى، وربّما الأشهر الأولى، من بزوغ الحركة المسيحيّة، وانتشرت سريعًا حيثما وجد أتباع ليسوع.
و- هذه العبادة عبّرت عنها مجموعة طقوس وصلوات ترجع إلى بدء المسيحيّة. ومنها:
١- مجموعة من الصلوات توجّه إلى يسوع أساسًًا أو شفيعًا أوحد (رومية 16: 20؛ 1كورنثوس 16: 23؛ 2كورنثوس 12: 8 و9؛ 1تسالونيكي 3: 11- 13؛ 2تسالونيكي 2: 16 و17، 3: 5).
٢- الاعتراف بيسوع سيّدًا (رومية 10: 9- 13؛ 1كورنثوس 1: 2، 12: 3؛ فيلبّي 2 : 10 و11).
٣- المعموديّة باسم يسوع (رومية 6: 4؛ 1كورنثوس 1: 15، 6: 11؛ غلاطية 3: 27).
٤- إقامة »عشاء الربّ« الذي أسّّسه السيّد نفسه (1كورنثوس 11: 17- 34). وهذا يختلف، كلّيًّا، عن الموائد التي كانت تقام للآلهة الوثنيّة (1كورنثوس 10: 14- 22). وذلك بأنّ يسوع، الذي هو السيّد الحيّ، هو الذي يرئس العشاء المسيحيّ، ويؤلّه الذين يشاركونه فيه بإيمان.
٥- الأناشيد وترتيل المزامير يشارك فيها كلّ عضو في الجماعة بما يخالف، علنًا، العادات اليهوديّة التي الترتيل فيها كان الملك أو الشخصيّات المسيانيّة يؤدّونه (1كورنثوس 14: 26؛ أفسس 5: 14 و18- 20؛ فيلبّي 2: 6- 11؛ كولوسّي 1: 15- 20، 3: 17؛ 1تيموثاوس 3: 16).
٦- النبوءات، الملهمة من الروح، تشكّل ظاهرة فارقة لاجتماعات المسيحيّين الأوائل (رومية 12: 6؛ 1كورنثوس 12: 10؛ أفسس 4: 11).
١١- المسيحيّة الأولى في اليهوديّة
إلى ما اقتبسناه من رسائل بولس دلالةً على هذه المسيحيّة، يمكننا، أيضًا، أن نستقي من كتاب أعمال الرسل (مثلاً: 2: 14- 40، 3: ١١- ٢٦، 4: ٨- ١٢ و24- 30، 5: ٢٧-٣٢ و40- 42، 7: ٥١- ٥٣، 8: 12 و30- 35، 9: ٢٠- ٢٢، 10: ٣٤- ٤٣). فهذه تبيّن أنّ هذه المسيحيّة كانت تعطي يسوع المكانة المركزيّة في إيمانها وصلاتها. ويجب أن نذكر أنّ بولس، عندما قصد أورشليم بعد ثلاث سنين على اهتدائه، وجد جماعة تحظى بتقليد عقديّ وتعليم وطقوس وحياة شركة وتنظيم متطوّر، كان شخص يسوع المكرّم، كما اللَّه، محورها كلّها. وهذا كلّه امتدّ إلى سائر الجماعات المسيحيّة في العالم.
١٢- المسيحيّة حسب المصدر Q
يتّفق معظم الباحثين على وجود مجموعة من أقوال ليسوع، دوّنها، عمومًا، مسيحيّون من أصل يونانيّ بلغتهم، وعلى أنّ كلاًّ من متّى ولوقا قد استعمل، إلى جانب إنجيل مرقس وتقاليد خاصّة به، هذه المجموعة عند وضعه إنجيله. وهذه المجموعة المزعومة مهرت بالحرف الأوّل من كلمة ألمانيّة تعني مصدر. وفق هذا المصدر، يشترك أتباع يسوع في رسالته التي تعلن مجيء ملكوت اللَّه وحضوره الفعليّ، وفي سلطان اجتراء العجائب التي تظهر قوّة هذا الملكوت، وفي علمهم بأن يصلّوا إلى اللَّه بثقة كلّيّة. ويشدّد المصدر كلّه على أهمّيّة يسوع، ويعطيه المكانة المحوريّة. ويطلق، غالبًا، على يسوع لقب »ابن الإنسان« و»السيّد« و»ابن اللَّه«. ويتّفق الباحثون على أنّ هذا المصدر يقدّم صورة غاية في الأهمّيّة عن يسوع الذي هو شريك اللَّه في كلّ مهامّه الإسخاتولوجيّة، والمهيمن على حياة أتباعه، والذي يسكنه روح اللَّه بطريقة خاصّة، والذي سيصل ملكوت اللَّه، فيه وبه، إلى ملئه أخرويًّا. إذا ثبتت صحّة هذا المصدر، وهذا يؤكّده الباحثون، يكون أقدم شهادة، توافق الاقتباسات التي نقلناها عن بولس وأعمال الرسل، على تكريم يسوع وعبادته.
١٣- الأناجيل: كتب عن يسوع
منذ السنة السبعين، وربّما تزمانًا مع موت معظم الرسل، أخذ بعض المسيحيّين يكتبون نصوصًا عن حياة يسوع وتعليمه، انتشرت انتشارًا واسعًا وسريعًا في الأوساط المؤمنة، وأثّرت تأثيرًا بالغًا في كلّ التاريخ المسيحيّ اللاحق. كلّ من هذه النصوص يشكّل قراءة لرسالة يسوع مسكوبة في عمل أدبيّ يأخذ في الاعتبار خصوصيّات كتّابه وقارئيه. أقدم هذه النصوص إنجيل مرقس الذي كتب غالبًا في أوائل السبعينيّات. وآخرها إنجيل يوحنّا في أواخر القرن الأوّل. وقد وضع متّى إنجيله، ولوقا، إلى إنجيله، كتاب أعمال الرسل. أناجيل مرقس ومتّى ولوقا، التي تدعى الأناجيل الإيزائيّة لوجود بعض تشابه بينها، يأخذ يسوع، فيها وفي أعمال الرسل، المركز المحوريّ الذي لاحظناه في رسائل بولس، والمصدرQ، أي الربّ أو السيّد والمسيح وابن الإنسان. أمّا إنجيل يوحنّا (والرسائل المنسوبة إليه)، فيظهر مكانة يسوع الإلهيّة من دون أن يغفل بشريّته. وأيضًا، تعكس هذه الكتابات المشاكل القائمة بين الجماعات المسيحيّة، التي استلمتها، واليهوديّة. وهذه كانت تدور حول ماهيّة يسوع وكيف يمكن فهم ألوهيّته بالنسبة إلى وحدانيّة اللَّه، وكيف يمكن أن يكون إلهًا وإنسانًا في آن. وهي كلّها تساؤلات شغلت الضمير المسيحيّ خلال قرون.
١٤- كتابات لاحقة من العهد الجديد
أ- الرسالة إلى العبرانيّين، التي لا يُعرف كاتبها أو تاريخ وضعها تحديدًا (بين 65 و100)، تعطي، ربّما، أفضل تعبير عن الإيمان بيسوع في الجيل المسيحيّ الأوّل. يؤكّد كاتبها أنّ كلّ عمل اللَّه هو في يسوع وبواسطته، وأنّ كلّ عبادة للَّه إنّما تمرّ به، مشيرًا إلى العلاقة الحميمة بينهما.
ب- الرسائل المنسوبة إلى بولس، أي كولوسّي وأفسس والرسائل الرعائيّة، التي كتبت في القسم الثاني من القرن الأوّل أو في أواخره، تدلّ على مدى تأصّل إيمان الجماعات البولسيّة وتطورّها وممارساتها العباديّة، ولا سيّما في تأكيدها ماسيانيّة المسيح، ودعوتها قرّاءها إلى »فعل كلّ شيء باسم الربّ يسوع، مقدّمين الشكر للَّه بواسطته« (كولوسّي 3: 7؛ أفسس 5: 20).
ج- كتابات العهد الجديد الأخرى، التي وضعت في أواخر القرن الأوّل، أي رسائل بطرس ويعقوب ويهوذا ورؤيا يوحنّا، تؤكّد، أيضًا، المعتقدات التي ذكرناها آنفًا، وفي آن طرائق عبادة يسوع التقليديّة. لكنّها تظهر تخوّفًا من بروز أفكار جديدة، تخالف التقاليد الأصليّة، يطلقها معلّمون مزيّفون يدّعون الأصالة، ويهدّدون وحدة الجماعة. لذلك تنبّه هذه الكتب، بأساليب متنوّعة، من خطر هذه الأفكار، وتدعو المؤمنين إلى التمسّك بألوهيّة يسوع وبصلته الفريدة مع اللَّه.
١٥- نصوص أخرى عن يسوع من القرن الثاني
ثمّة كتب أخرى، تتكلّم على يسوع، معظمها منحول، وأقدمها وُضع بعد الأناجيل القانونيّة بعشرات السنين، أهمّها:
أ- بعض الكتب التي نعرف أجزاء بسيطة منها من أعمال كتّاب مسيحيّين، أمثال: إيريناوس وإقليمس الإسكندريّ وأوريجانّس وإفسابيوس القيصريّ وأبيفانس القبرصيّ وغيرهم، أي إنجيل الناصريّين، إنجيل العبرانيّين، إنجيل الأبيونيّين، وإنجيل المصريّين. وعلى أنّ ما وصل إلينا أنّ هذه الكتب يلفّق بعضها بين المسيحيّة واليهوديّة، وبعضها الآخر يناقض المسلّمات بطابعه الفلسفيّ والأسطوريّ، إلاّ أنّها تؤكّد كلّها عبادة يسوع عند المسيحيّين المقتنعين بها.
ب- إنجيل مرقس السرّيّ الذي توجد مقاطع منه في رسالة منسوبة إلى إقليمس الإسكندريّ. هذا الإنجيل، الذي يختلف الباحثون على طبيعته، يدّعي كشف بعض الأسرار المغفلة في الكتابات المسيحيّة الأخرى التي لا يمكن كشفها إلاّ إلى »المستنيرين«.
ج- أقسام صغيرة من كتب فُقدت كلّها مع عناوينها، فأطلق عليها أسماء أو أرقام الأمكنة التي وجدت فيها (أوكسي 840، أوكسي 1224، فيوم، أغيرتون 2، إسترسبورغ القبطيّ، قسم إنجيل بطرس من أخمين، إلخ...). إنجيل بطرس، الذي كتب في القرن الثاني، وجّهه واضعه إلى مسيحيّين يعادون اليهود، وضمّنه بعض المفاهيم الصبيانيّة عن حياة يسوع إبرازًا لطبيعة خارقة تناسب مسيحيّة شعبيّة على بعضٍ من السذاجة. أمّا النصوص الأخرى التي تصعب قراءتها وفهمها جيّدًا، فتبدو، بمعظمها، كما لو أنّها أقسام من روايات عن يسوع مكتوبة لتشديد المؤمنين به. ويمكن أن توجد، في بعضها، أقوال ليسوع لم ترد في العهد الجديد.
د- أناجيل الطفولة، وهي نماذج أخرى لأدب شعبيّ يسعى إلى سدّ فراغات في النصوص القانونيّة عن ولادة يسوع وطفولته. أقدمها إنجيل يعقوب الأوّل وإنجيل الطفولة لتوما. وقد كتبا في النصف الثاني من القرن الثاني، وهما يعجّان بالعجائب الخارقة والروايات الخياليّة. الكتاب الأوّل يتمحور حول والدة الاله. فيعظّم بتوليّتها الدائمة، ويسرد أخبارًا عن طفولتها وحياتها في الهيكل (التي أدخلتها الكنيسة، لاحقًا، في عبادتها). يبدو أنّه يرتكز على مواقف إيمانيّة على شيء من القدم، وعلى إيمان راسخ بأنّ مكانة يسوع السامية تفترض مكانة خاصّة للمرأة التي ولدته عجائبيًّا. أمّا إنجيل الطفولة لتوما، فيحتوي على روايات عدّة عن طفولة يسوع قبل بلوغه الثانية عشرة، كتبت، بسذاجة، بغية إظهار قدرته الإلهيّة على اجتراح العجائب.
هـ- إنجيل توما، الذي عثر عليه العام الـ1945 في ناغ حمادي في مصر، يختلف كلّيًّا عن الأناجيل القانونيّة وغير القانونيّة التي ذكرناها. فهذا الكتاب، الذي يميّز ما بين المختارين وباقي المسيحيّين، يشكّل مجموعةً من 114 قولاً منسوبًا إلى يسوع، المعلّم الأوحد الذي توجد، في أقواله، حقائق سرّيّة ثمينة لا يسبر أغوارها إلاّ العارفون. وعلى غياب أيّ إشارة فيه إلى العهد القديم، يظهر يسوع كإله في إطار مفهوم تدرّجي للألوهة. يرجّح أن يكون هذا الكتاب قد صدر عن جماعة نخبويّة تعادي، بتعاليها، المؤمنين الآخرين ورؤسائهم، وتدعو إلى نوع من الروحانيّة المتمحورة حول كشف للذات يخوّل، وحده، الإنسان أن يدخل الألوهة.
و- نصوص غنوصيّة أخرى
لقد وجدت، في ناغ حمادي أيضًا، نصوص أخرى، كصلاة بولس الرسول وإنجيل الحقيقة وإنجيل فيلبّس، وغيرها. وهذه منشؤها نظريّات تخالف التعاليم المسيحيّة التقليديّة، بل تحتقرها، شيّعها في القرن الثاني، أو أهمّ مشيّعيها، فالنتينس (بين 100 و175) الغنوصيّ، وماركيون (أواخر القرن الأوّل- القسم الثاني من القرن الثاني) الذي رفض العهد القديم، ووضع أعمال العهد الجديد بعد أن نقّحها ممّا اعتبره تأثيرًا يهوديًّا. حتّى الآن، لم يصل إلينا أيٌّ من كتب ماركيون، بل وُجدت مقتطفات منها عند يوستينس الفيلسوف وهيبوليتوس الرومانيّ وإيريناوس أسقف ليون وترتوليانس في سعيهم إلى دحض تعاليمه. ويجب أن نعرف أنّ ثمّة نظريّات غنوصيّة أخرى، ظهرت في القرن عينه، غابت من دون أن تؤثّر في التيّار المسيحيّ التقليديّ الأساس.
١٦- الخلاصة
يمكن تلخيص ما تقدّم بالمعطيات التالية:
أ- تكريم يسوع وعبادته ظهرا في أوساط أتباعه توًّا وتامًّا.
ب- لقد بقي هذا الإيمان راسخًا في جميع أوساط المسيحيّين الأوائل، على تنوّعهم.
ج- حتّى النظريّات الهرطوقيّة الأولى، أكّدت ألوهيّة يسوع.
د- محوريّة يسوع وعمله الخلاصيّ دفعا المسيحيّين الأوائل إلى الوصول إلى رؤية جديدة للَّه. فأكّدوا وحدانيّة اللَّه الشخصيّ المتميّز بالمحبّة والرحمة والأمانة، والحامل إلينا تدبيرَهُ الخلاصيّ ابنُهُ الأزليّ الذي هو إله تامّ توجب له، مع أبيه، كلّ عبادة وتكريم.
هـ- منذ البدء، آمن المسيحيّون بأنّ يسوع هو، أيضًا، إنسان تامّ يحمل، بطريقة لا رجوع عنها، الطبيعة البشريّة التي مجّدها بموته وقيامته وصعوده وجلوسه عن يمين أبيه.
و- هذه الاعتقادات شكّلت حافزًا للالتزام جعل اعتناق الإيمان المسيحيّ يعني الالتحاق بجماعة اللَّه المقتدرة بأمانته. وعرف المعمّدون أنفسهم أنّهم عائلة اللَّه التي تعوّضهم من كلّ خلاف أو اضطهاد تعرّضوا له، وكثيرًا حتّى بذل الدم، إن من عائلاتهم الأرضيّة أو المجتمع. وبذا، ظهرت قوّة رسالة السيّد وجمال هويّة أتباعه المثبتة باختبارات روحيّة وكشوفات سامية. هذا كلّه غدا ممكنًا بفضل محوريّة يسوع وإلهامه ومَثله وسلطان كلمته، وإرشاده خطوات أحبّائه جميعًا، ودعوته إيّاهم إلى محبّة بعضهم بعضًا، ليؤمن العالم برسالته المخلِّصة.
ز- إنّها رسالة المسيح إلينا اليوم، حاضرًا ومستقبلاً. فنحن، من دونه، لا خلاص لنا، وبدون روحه القدّوس لا قدرة على اقتحام العالم. يبقى أن نتبع المسيحيّين الأوائل بوضعنا وجه يسوع أمامنا، لنسلك بنور هداه. يجب أن تظلّ شعلة المحبّة مضاءة، لتبقى كنيستنا منارة تهدي القريبين والبعيدين إلى وجه إلهنا الدامي والمنير، ولنبقى قادرين على أن نهتف: »تعال، أيّها الربّ يسوع، تعال«(1).l
١- : من يرغب في التوغّل بمزيد من الدقّة في المواضيع المطروحة في هذا المقال، عليه أن يرجع الى كتاب