2011

11. من أجل حياة العالم: الحياة تتجلّى في الأيقونة - الأب جهاد (أبو مراد) - العدد الأول سنة 2011

 

 

الحياة تتجلّى في الأيقونة

الأب جهاد أبو مراد

 

 تمهيد

 عندما نقف أمام أيقونة بيزنطيّة، نلاحظ أمورًا مستغربة، لأنّ الصورة التي نراها تخرج على المألوف، وعلى ما اعتدنا رؤيته في اللوحات الأخرى. فأحجام الأجساد غير طبيعيّة، وكذلك الأبنية والجبال وغيرها. والوجوه البشريّة مختلفة. فالعيون كبيرة، والأفواه صغيرة، الآذان كبيرة، والأنوف طويلة. ثمّة من يرى، في عدم تناسق أعضاء الوجه، بشاعة تأباها النفس، وثمّة من يستنج أنّ الأيقونة البيزنطيّة، لوحة تخلو من الجمال، صنعها فنّانون بدائيّون.

 

١- تعبير الأيقونة الأرثوذكسيّة

السؤال الأوّل

- ما الفرق بين الأيقونة البيزنطيّة واللوحة الدينيّة الغربيّة؟

 إنّ فنّ الأيقونة البيزنطيّة يختلف كثيرًا عن أيّ فنّ آخر. الفنّ البيزنطيّ ينقل صورة الأشياء بشكل »غير طبيعيّ«، بل هو يتعمّد تغيير الواقع الطبيعيّ للأشخاص والأشياء. وعلى هذا الأساس، فإنّ أسلوبه يتميّز بما يلي:

أ- إلغاء الأبعاد (مَدى النظر = Perispective) الأيقونة البيزنطيّة تلغي أبعاد المدى، الذي هو مبدأ أساس في كلّ اللوحات العاديّة. فعند تأمّلنا لوحة فنّيّة، نلاحظ أنّ المشاهد البعيدة تبدو أصغر من المشاهد القريبة، والأشياء، التي في عمق المدى، تنطفئ وتختفي، ما يُضطرّ الناظر إلى تشغيل المخيّلة  لتوهّم كمالها.

الأيقونة تلغي المدى، لأنّها لا تريد إعطاء الناظر إنطباعًا واهمًا، أو تجعله يتخيّل أشياء لا يراها في الصورة. ومن جهة أخرى، فإنّ هذا الأسلوب يفسح أمام الرسّّام (كاتب الأيقونة) مجال التحكّم في الأشخاص الذين يقع اختياره عليهم، من دون الأخذ في الاعتبار، مركزهم أو موقعهم في الصورة.

الأيقونة تلغي المدى، لأنّها لا تريد أن تجعل الإنسان مراقبًا لمسرحيّة من الماضي، أو متابعًا لها من الخارج. الأيقونة تدعو الإنسان إلى المشاركة في الحدث الذي تؤرّخ له، وتساعده على أن يشعر أنّه داخل الأيقونة، ومشارك في تسطير الحدث. وهنا، ندخل إلى الميزة الثانية.

ب- تجلّي الزمن والتاريخ. الأسلوب الأرثوذكسيّ في رسم الأيقونة، عن معرفة وسابق تصوّر، »يرتكب الأخطاء« عند تصويره بعض الأحداث. ففي أيقونات العشاء السرّيّ والصعود والعنصرة، يضع الرسول بولس في مقدّم الرسل، مع أنّه تاريخيًّا، لم يكن قد أصبح مسيحيًّا، ولم يكن رسولاً. وما ذلك إلاّ لكي تقول لنا إنّ الأحداث لا تنتمي إلى اللحظة التاريخيّة التي جرت فيها وحسب، بل تتمّ »اليوم«، الآن وهنا، وهي منفتحة على الجميع »في كلّ زمان ومكان«، ونستطيع، تاليًا، أن نكون مشاركين فيها على غرار الرسل... وبولس.

ج- إستعمال الضوء. الأيقونات لا تقيم حسابًا لمصدر الضوء الخارجيّ، ولا تقيم وزنًا للعبة الخيالات الضوئيّة التي تُطرح على الأشياء ،لتضيئها من الخارج. الأيقونات ليست بحاجة إلى الضوء الخارجيّ. فالشمس لا تحتاج إلى النور، ولا يضيء أحدنا الشمس. في عالم الأيقونة، الشمس موجودة في الداخل، ولا تغرب بتاتًا. النور يخرج من الأيقونة، من وجوه القدّيسين المنوّرة والخليقة المتجلّية. النور، في الأيقونة، ليس عابرًا، ولا تدخل حزم اشعاعاته، من فتحة أو طاقة مبنى أو من بين أغصان الأشجار، كما في اللوحات العاديّة. النور، هنا، مقيم وبهيّ وغير مخلوق، إنّه نعمة الروح القدس.

د- الواقع الجديد. اعتدنا اعتبار اللوحة الفنّيّة العاديّة طبيعيّة بالقدر الذي تكون فيه مطابقة للأصل أو للصورة الفوتوغرافيّة. من هذا المنطلق، ثمّة من يعتبر الأيقونة الأرثوذكسيّة غير طبيعيّة. ولكنّ الأيقونة »طبيعيّة« بامتياز، ذلك بأنّها تنقل إلينا، بواسطة الرموز والخطوط والألوان، طبيعة الإنسان المتقدّس والمتجلّي، وليس الإنسان الذي شوّهت الخطيئة طبيعته. الأيقونة »ترينا الإنسان ساعة الصلاة، عندما يتقدّس بالروح القدس« (أوسبينسكي).

في الأيقونة، ندرك جمال تحوّل الأجسام والمخلوقات. فالعيون كبيرة، لتنظر مجد اللَّه وجماله، والأفواه صغيرة، كيلا تبوح إلاّ بما يسهم في بناء الإنسان الروحيّ، والأذان كبيرة، لسماع كلمة الربّ، ووشوشات صلواتنا وتضرّعاتنا. الأحداث، التي جرت في الأماكن المغلقة، تصوّرها الأيقونة في أماكن مفتوحة، لأنّها لا تخصّ فقط، شريحة من الناس عاشت في مكان محدّد وعصر معيّن، بل هي أحداث عالميّة ولكلّ زمان ومكان.

٢- معنى الأيقونة

كلّ هذه الإختلافات بين الأيقونة الأرثوذكسيّة واللوحات الفنّيّة العالميّة، تقودنا إلى البحث عن معناها.

- فما معنى الأيقونة البيزنطيّة؟

أ- المعنى الليتورجي للأيقونة. نشأت الأيقونة في بيئة كنسيّة، وتأثّرت بالحياة الليتورجيّة، ولا تُفهم خارجها. يعتبر الأباء القدّيسون الكنيسة صورة للسماء. الكنيسة هي السماء الجديدة والأرض الجديدة، وعالم التجلّي. كلّ ما يجرى في الكنيسة، وكلّ ما يوجد في الكنيسة كالهندسة والرسم والموسيقى، تجلّيّات تعمل بالتناغم والمشاركة على نور الحياة الجديدة وفرحها. فالليتورجيا الأرضيّة، التي نقيمها في الكنيسة، صورة لليتورجيا السماويّة. والقدّيسون يصوَّرون أمام المؤمنين، ليقبلوا تضرّعهم، ويقدّموا معهم العبادة للَّه. الأيقونة، تاليًا، هي صلاة. والقدّاس الإلهـيّ هـو جذر الحياة الذي أفرع نبتة الأيقونة وما زال يرفدها بالحياة.

ب- المعنى العقائديّ. الأيقونة لاهوت يُكتب بالخطوط والألوان. الأيقونة إنجيل مصوّر. الإنجيل مقتضب، وكذلك الأيقونة. الإنجيل المقدّس يكرز بأنّ المسيح إله تامّ وإنسان تامّ، وكذلك تكرز الأيقونة. فعندما تصوّر ابن اللَّه إنسانًا، تؤكّد حقيقة التجسّد. وعندما تغيّر ملامحه البشريّة، تكشف أنّه ليس إنسانًا عاديًّا، بل يسوع الإله المتأنّس.

اللوحات الدينيّة الغربيّة تصوّر المسيح إنسانًا عاديًّا، يحمل ملامح عصره. في الفنّ البيزنطيّ، لا يمكن لجمال أرضيّ، مهما بلغ، أن يقارب جمال يسوع الفائق البهاء، ولا يمكن لصورة مخلوق أن تحلّ محلّ صورته. أيقونة المسيح هي النموذج الأوّل، وأيقونات القدّيسين تُرسم وفقًا لهذا النموذج، لتأكيد إمكانيّة تألّه الإنسان، وللقول إنّ القدّيسين هم »مسحاء« بالنعمة، وإنّ يسوع بين قدّيسيه هو »إله في وسط الآلهة«.

ج- المعنى التقديسيّ التربويّ. كلّ أيقونة بيزنطيّة تمثّل موضوعًا. والموضوع، الذي ننظر اليه، يعلّم، ويحرّك، »ويرفع العقل الى معرفة اللَّه«، حسب أقوال المجمع المسكونيّ السابع. المجمع ذاته يعلّم أنّ المؤمن، عندما ينظر إلى الأيقونة، يتقدّس، »وتتقدّس الحاظه«. الأيقونة مغناطيس روحيّ يجذب، بقوّة، نفوس المؤمنين. الأيقونة ترينا الحياة المتجلّية، كما يعيشها المؤمنون، في السماء وعلى الأرض.

المناقشة

الأيقونة في البيت، تتابع سرّ الشكر في حياتنا اليوميّة، وتحوّلها إلى حياة صلاة. والبيت أيضًا، بالأيقونة يصبح امتدادًا للكنيسة: »كنيسة في البيت«. والأيقونة ليست ديكورًا، ولا تحفة أثريّة، بل مطرح مقدّسً لتقبّل الصلاة والتضرّع ودموع أفراحنا وأحزاننا.

الأيقونة، في الكنيسة الأرثوذكسيّة، هي حياتنا، وعندما نقبّلها، نقبّل اللَّه، يسوع، مريم العذراء والقدّيسين. الأيقونة نبع حياة لا ينضب. »وعندما تتعلّم السجود لأيقونات المسيح والعذراء والقدّيسين- السجود بكلّ كيانك- عندها تكتشف الطريق المؤدّي إلى ينبوع الحياة التي لا تنتهي«  ( إيسوذيكون 139).

 هناك تقاليد عريقة وجليلة، تقاليد إلفة ومعرفة واعية، وتعلّق لمؤمنينا بالقدّيسين. هذه التقاليد نلاحظها في المحبّة الفيّاضة التي يكنّها المؤمنون لهم، والشوق العفويّ والاحترام الفائق الذي يقدّمونه لذخائرهم المباركة وأيقوناتهم المكرّمة. إنّ المؤمنين الأتقياء يعرفون بالبديهة أنّ النعم تفيض منها، وأنّها ينبوع للبركات الإلهيّة.

ملاحظة

جاء في الوصايا العشر: »لا تصنع لك منحوتًا ولا صورة شيء ممّا في السماء من فوق، ولا ممّا في الأرض من أسفل، ولا ممّا في المياه من تحت الأرض. لا تسجد لهـا ولا تعبدها...« ( خروج ٤: ٢٠). إنّ تصوير اللَّه صار مقبولاً مسيحيًّا، لأنّ كلمة اللَّه، عند تجسّده، اتّخذ جسدًا بشريًّا منظورًا قابلاً للتصوير. تاليًا، فإنّ رفض تصويره، يعني واقعيًّا رفض تجسّد اللَّه.

 

 

 

أقوال آبائيّة

 سينوذيكون من أجل تكريم الأيقونات

كما عاين الأنبياء، كما علّم الرسل، كما تسلّمت الكنيسة، كما اعتقد المعلّمون، كما اتّفقت آراء المسكونة معًا، كما أشرقت النعمة، كما اتّضح الحقّ، كما اضمحلّ الكذب، كما استُعلِنت الحكمة، كما جاد المسيح بالجوائز، فإنّنا هكذا نعتقد، وهكذا نتكلّم، وهكذا نكرز منذرين بالمسيح إلهنا الحقيقيّ، ونكرّم قدّيسيه بالأقوال والكتابات والمعاني والشهادة والكنائس والأيقونات. فأمّا المسيح، فنسجد له كسيّد وإله، ونعبده. وأمّا القدّيسون، فنكرّمهم لأجل سيّد الجميع، كخدّام أخصّاء له، ونقدّم لهم السجود بحسب النسبة.

هذا إيمان الرسل، هذا إيمان الآباء، هذا إيمان المستقيميّ الرأي، هذا الإيمان قد وطّد المسكونة. (المجمع المسكونيّ السابع، أحد الأرثوذكسيّة).l

 

© حقوق الطبع والنشر 2025 مجلّة النور. كل الحقوق محفوظة.
Developed by Elias Chahine

Search